Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 23, Ayat: 93-100)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { قل ربّ إِما تُرِيَنَّي } أي : إذا كان لا بد أن تريني ما يوعدون من العذاب المستأصل في الدنيا أو عذاب الآخرة ، { ربِّ فلا تجعلني في القوم الظالمين } أي : قريباً لهم فيما هم فيه من العذاب ، وفيه إيذان بفظاعة ما وُعدوه من العذاب ، وأنه يجب أن يستعيذ منه مَن لا يكاد أن يحيق به ، وردٍّ لإنكارهم إياه واستعجالهم على طريقة الاستهزاء ، وقيل : أمر به صلى الله عليه وسلم هضماً لنفسه ، وقيل : إن شؤم الكفرة قد يحيق بمن وراءهم كقوله تعالى : { وَاتَّقُواْ فِتْنَةً … } [ الأنفال : 25 ] إلخ ، ورُوي عن الحسن أنه - تعالى - أخبر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن في أمته نقمة ، ولم يطلعه على وقتها ، فأمر بهذا الدعاء ويجوز أن يسأل النبيُّ المعصوم ربه ما علم أنه يفعله ، وأن يستعيذ به مما علم أنه لا يفعله إظهاراً للعبودية وتواضعاً لربه . والفاء : جواب " إما " الشرطية ، أي : إن نزلت بهم النقمة فاجعلني خارجاً عنهم ، وتكرير النداء ، وتصدير كل من الشرط والجزاء به - أي : بالدعاء - لإبراز كمال الضراعة والابتهال . قال تعالى : { وإِنا على أن نُّرِيَكَ ما نَعِدُهم } من العذاب { لقادرون } ، ولكنا نؤخره لعلمنا بأن بعضهم ، أو بعض أعقابهم ، سيؤمنون ، أو : لأنا لا نعذبهم وأنت فيهم ، وقيل : قد أراهم ذلك ، وهو ما أصابهم يومَ بدر وفتح ومكة ، وهو بعيد لأن المبادر أن يكون ما استحقوه من العذاب الموعود عذاباً هائلاً مستأصلاً لا يظهر على يديه صلى الله عليه وسلم للحكمة الداعية إليه ، وكانوا يضحكون ، استهزاءً بهذا الوعد ، وإنكاراً له ، فقال لنبيه - عليه الصلاة والسلام - : { ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ } أي : ادفع الخصلة السيئة بالخصلة التي هي أحسن ، وهو الصفح عنها والإحسان في مقابلتها ، لكن بحيث لا يؤدي إلى وَهَنٍ في الدين وإهانةٍ له . وقيل : السيئة : الشرك ، والتي هي أحسن : كلمة التوحيد ، وقيل : السيئة : المنكر ، والتي هي أحسن : النهي عنه ، وقيل : هي منسوخة بآية السيف ، وقيل : محكمة إذ المداراة مأمور بها . قال ابن عطية : أمر بمكارم الأخلاق ، وما كان منها بهذا المعنى ، فهو محكم باق في الأمة أبداً ، وما كان بمعنى المواعدة فمنسوخ بآية القتال . هـ . وهذا التركيب أبلغ من " ادفع بالحسنة السيئة " لما فيه من التنصيص على التفضيل ، وتقديم الجار والمجرور على المفعول للاهتمام . { نحن أعلم بما يصفون } من الشرك والولد ، أو بما يصفك به ، مما أنت على خلافه ، من السحر وغيره ، فسنجازيهم عليه ، وفيه وعيد لهم ، وتسلية لرسوله صلى الله عليه وسلم ، وإرشاد له إلى تفويض أمره إليه تعالى والاكتفاء بعلمه . { وقل ربِّ أعوذُ بك من هَمَزاتِ الشياطين } أي : وساوسهم المغرية على خلاف ما أمرت من المحاسن ، التي من جملتها دفع السيئة بالحسنة ، وأصل الهمز : النخس ، ومنه : مهماز الرائض ، شبه حثهم للناس على المعاصي بهمز الرائض الدوابَّ على الإسراع والوثب . وجَمَعَ همزات لتنوُّع الوساوس وتعدد المضاف إليه ، { وأعوذ بك ربِّ أن يحضرون } ، أمر بالتعوذ من نخساتهم بلفظ المبتهل إلى ربه ، والتعوذ من أن يحضروه أصلاً في حال من الأحوال مبالغة في التحذير من ملابستهم ، أو أن يحضروه عند التلاوة أو الصلاة ، أو عند النزع تشريعاً . وإعادة الفعل ، مع تكرير النداء لإظهار كمال الاعتناء بالمأمور به . ولا تزال الكفرة تصف الحق بما لا يليق به من الشرك ، { حتى إذا جاء أحدَهم الموتُ } أي : لا يزالون مشركين حتى يموتوا ، فحتى ، هنا ، ابتدائية ، دخلت على جملة الشرط ، وهي متعلقة بيصفون ، وما بينهما اعتراض مؤكد للإغضاء ، لكن لا بمعنى أنه العامل فيه لفساد المعنى ، بل بمعنى أنه معمول لمحذوف دل عليه ذلك ، أي : تنزيهاً له تعالى عما يصفون ، ويستمرون على الوصف المذكور ، حتى إذا جاء أحداً منهم الموت الذي لا مرد له ، وظهرت له أحوال الآخرة ، { قال } تحسراً على ما فَرَّطَ فيه من الإيمان والطاعة : { ربِّ ارجعون } أي : ردني إلى الدنيا ، والواو لتعظيم المخاطب ، كخطاب الملوك ، { لعلي أعملُ صالحاً فيما تركت } أي : في الإيمان الذي تركته ، أو في الموضع الذي تركت فيه الإيمان والطاعة وهو الدنيا لأنه ترك الدنيا وصار إلى العقبى . قال قتادة : ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ، ولكن ليتدارك ما فرط . وعنه ، صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِذَا عَايَنَ المؤمن المَلائِكَةَ قَالُوا له : نُرجِعُكَ إلى الدُّنْيا ؟ فَيَقُولُ : إِلَى دارِ الهُمومِ والأحْزانِ ؟ بَلْ قُدُوماً إلى اللهِ تبارك ، وتعالى ، وأمَّا الكافر فَيقُولُ : ارجعون لعلي أعملَ صالحاً … " وقال القرطبي : ليس سؤالُ الرجعة مختصاً بالكافر ، فقد يسألها المؤمن ، كما في آخر سورة المنافقين ، ودلت الآية على أن أحداً لا يموت حتى يعرف : أهو من أولياء الله أم من أعداء الله ، ولولا ذلك لما سأل الرجعة ، فيعلم ذلك قبل نزول الموت وذواقه . هـ . قال المحشي الفاسي : ولعل محمل الحديث في المؤمن الكامل غير المقصِّر ، والآية في غيره . والله أعلم . هـ . { كَلاَّ } أي : لا رجوع له أصلاً ، وهو ردع عن طلب الرجعة ، واستبعاد لها ، { إِنها } أي : قوله : رب ارجعون ، { كلمةٌ } ، والمراد : طائفة من الكلام ، وهو ربِّ ارجعون … إلخ ، { هو قائلها } ، ولا فائدة له فيها ، ولا حقيقة لها لعدم حصول مضمونها ، أو هو قائلها لا محالة لتسليط الحسرة والندم عليه ، فلا يقدر على السكوت عليها ، ومن ورائهم أي : أمامهم ، والضمير للجماعة لأن أحدهم بمعنى كلهم ، { برزخٌ } : حائل بينهم وبين الرجعة ، { إلى يوم يُبعثون } : يوم القيامة ، وهو إقناط كلي عن الرجوع إلى الدنيا ، لما علِم أنه لا رجعة يوم القيامة إلى الدنيا ، وإنما الرجوع فيه إلى الحياة الأخرية . والله تعالى أعلم . الإشارة : ما قاله صلى الله عليه وسلم في تضرعه إلى الله تعالى - كما أمره الحق تعالى - يقوله كل عارف ومتيقظ ، فيقول : ربِّ إما تُريني ما يُوعدهُ أهل الغَفلة والبطالة من التحسر والندم ، عند انقراض الدنيا وإقبال الآخرة ، فلا تجعلني في القوم الظالمين ، أي : لا تسلك بي مسلكهم حتى أتحسر معهم فإذا أوذي في الله - كما هو شأن أهل الخصوصية - يقال له : ادفع بالتي هي أحسنُ السيئةَ ، وقابل الإساءة بالإحسان ، وإياك والانتصار لنفسك ، وتعوذ بالله من همزات الشياطين ، إن قامت عليك نفسك وأرادت الانتصار ، كما هو شأن أهل الغفلة ، في كونهم منهمكين في الغفلة ، مملوكين في أيدي أنفسهم ، مستمرين على ذلك ، حتى إذا حضر أجلهم طلبوا من الله الرجعة ، هيهات هيهات ، { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَىٰ يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ المؤمنون : 100 ] ، وفي الأثر : " ما منكم من أحد إلا وسيندم عند الموت ، إن كان محسناً أن لو زاد ، وإن كان مسيئاً أن لو تاب " أو كما قال . ولأجل هذا المعنى شد أهل اليقظة الحُزُم ، وشمروا عن ذراعهم في طاعة مولاهم ، وعمروا أوقاتهم بما يقربهم إلى محبوبهم ، وتنافسوا في ذلك أيَّ تنافس ، وفي ذلك يقول القائل : @ السِّباقَ ، السِّباقَ ، قولاً وفِعْلاً حَذِّرِ النَّفْس حَسْرَة المسْبُوقِ @@ وكان بعض العباد حفر قبراً في بيته ، فإذا صلى العشاء دخل فيه ، وقرأ : { قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً … } الآية ، فيقول لنفسه : ستطلبين الرجعة ولا تُمكنين منها ، وأنت اليوم متمكنة من الرجوع ، قومي إلى خدمة مولاك ، قبل أن يحال بينك وبينها ، فيبيت قائماً يُصلي . وهكذا شأن اهل اليقظة يُقدمون الندم والجد قبل فوات إبَّانِهِ . أعاننا الله على اغتنام طاعته ، وما يقربنا إلى حضرته . آمين . ثمَّ ذكر أهوال ذلك اليوم الموعود