Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 24, Ayat: 30-31)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { قل للمؤمنين } ، ويندرج فيهم المستأذنون بعد دخولهم البيوت اندراجاً أوَّلِيّاً ، أي : قل لهم : { يغضُّوا مِنْ أبصارهم } ، و " مِن " : للتبعيض ، والمراد : غض البصر عما يحرم ، والاقتصار على ما يحل . ووجه المرأة وكفاها ليس بعورة ، إلا خوف الفتنة ، فيحل للرجل الصالح أن يرى وجه الأجنبية بغير شهوة . وفي الموطأ : هل تأكل المرأة مع غير ذي محرم ، أو مع غلامها ؟ قال مالك : لا بأس بذلك ، على وجه ما يُعرف للمرأة أن تأكل معه من الرجال ، وقد تأكل المرأة مع زوجها ومع غيره ممن يؤاكله . هـ . وقال ابن القطان : فيه إباحة إبداء المرأة وجهها ويديها للأجنبي ، إذ لا يتصور الأكل إلا هكذا ، وقد أبقاه الباجِي على ظاهره وقال عياض : ليس بواجب أن تستر المرأة وجهها وإنما ذلك استحباب أو سنَّة لها ، وعلى الرجل غض بصره . ثم قال في الإكمال : ولا خلاف أن فرض ستر الوجه مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم . هـ . { و } قل لهم أيضاً : { يحفظوا فُرُوجَهُم } ، إلا على أزواجهم ، أو ما ملكت أيمانهم ، وتقييد الغض بمن التبعيضية ، دون حفظ الفروج لِما في النظر من السَّعَة ، فيجوز النظر إلى وجه الأجنبية وكفيها وقدميها ، وإلى رأس المحارم والصدور والساقين والعضدين . قاله النسفي . قلت : ومذهب مالك : حرمة نظر الساقين والعضدين من المحرَم ، فإن تعذر التحرر مِنْهُ ، كشغل البنات في الدار ، باديات الأرجلِ ، فليتمسك بقول الحنفي ، إن لم يقدر على غض بصره . قاله شيخنا الجنوي . { ذلك أَزْكَى لهم } أي : أطهر لهم من دَنَسِ الإثم أو الريبة ، { إن الله خبير بما يصنعون } ، وفيه ترغيب وترهيب ، يعني : أنه خبير بأحوالهم وأفعالهم ، فكيف يجيلون أبصارهم ، وهو يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور ؟ ! فعليهم ، إذا عرفوا ذلك ، أن يكونوا منه على حَذر . { وقُلْ للمؤمنات يَغْضُضْنَ من أبصارهن } بالتستر والتصون عن الزنا ، فلا تنظر إلى ما لا يحل لهن النظر إليه من عورات الرجال والنساء ، وهي من الرجل : ما عدا الوجه والأطراف ، ومن النساء : ما بين السرة والركبة ، فلا يحل للمرأة أن تنظر إلى الرجل ما سوى الوجه والأطراف ، أو بشهوة . وقيل : إن حصل الأمن من الشهوة جاز ، وعليه يحمل نظر عائشة إلى الحبشة . { وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ } من الزنا والمساحقة . وإنما قدّم غض البصر على حفظ الفروج لأن النظر بريد الزنا ، ورائد الفجور ، فَبَذْرُ الهوى طُمُوحُ العَيْنِ . { ولا يُبدينَ زينتَهُن } كالحُلي ، والكحل ، والخِصاب ، والمراد بالزينة : مَوَاضِعُها ، فلا يحل للمرأة أن تظهر مواضع الزينة ، كانت مُتَحَلِّيَةً بها أم لا ، وهي : الرأس ، والأُذن ، والعنق ، والصدر ، والعضدان ، والذراع ، والساق . والزينة هي : الإكليل ، والقرط ، والقلادة ، والوِشاح ، والدملج ، والسوار والخلخال . { إلا ما ظهرَ منها } إلا ما جرت العادة بإظهارها ، وهو الوجه والكفان ، إلا لخوف الفتنة ، زاد أبو حنيفة : والقدمين ، ففي ستر هذه حرج فإن المرأة لا تجد بُدّاً من مزاولة الأشياء بيديها ، ومن الحاجة إلى كشف وجهها ، خصوصاً في الشهادة والمحاكمة والنكاح ، وتضطر إلى المشي في الطرقات ، وظهور قدميها ، ولا سيما الفقيرات منهن . قاله النسفي . { وليَضْرِبْنَ بخُمُرِهنَّ على جُيُوبهنَّ } أي : وَلْيَضَعْنَ خُمُرَهنَّ ، جمع خمار ، وهو ما يستر الرأس ، { على جيوبهن } ، وهو شَقُّ القميص من ناحية الصدر ، وكانت النساء على عادة الجاهلية يَسْدِلْنَ خُمُرَهُنَّ مِنْ خَلْفِهِنَّ ، فتبدو نحورُهن وقلائدهُن من جيوبهن ، وكانت واسعةً ، يبدو منها صدورهن وما حواليها ، فأُمِرْنَ بإسدال خُمُرِهن على جيوبهن ستراً لما يبدو منها . وقد ضمَّنَ الضَّرْبَ معنى الإلقاء والوضع ، فَعُدِّيَ بعلى . { ولا يُبدين زينتهنَّ } أي : مواضع الزينة الباطنة كالصدر ، والرأس ، ونحوهما ، كرره : ليستثني منه ما رخص فيه ، وهو قوله : { إلا لِبُعُولَتِهِنَّ } لأزواجهن ، فإنهم المقصودون بالزينة . ولهم أن ينظروا إلى جميع بدنهن حتى الفرج ، { أو آبائِهنَّ } ، ويدخل فيهم الأجداد ، { أو آباء بُعُولَتِهنَّ } فقد صاروا محارم ، { أو أبنائهن } ، ويدخل فيهم الأحفاد ، { أو أبناء بُعولتِهِنَّ } لأنهم صاروا محارم أيضاً ، { أو إِخوانهن } الشقائق ، أو لأب ، أو لأم ، { أو بني إخوانهن أو بني أخَوَاتِهِنَّ } وإن سفلوا ، ويدخل سائر المحارم ، كالأعمام ، والأخوال ، وغيرهم لكثرة المخالطة وقلة توقع الفتنة من قِبلَهِم ، فإن تحققت حيل بينهم ، وعدم ذكر الأعمام والأخوال ، لأن الأحوط أن يُسْتَرْنَ عنهم حذراً من أن يَصِفُوهُنَّ لأبنائهم ، { أو نسائهنّ } يعني جميع المؤمنات فكأنه قال : أو صنفهن ويخرج من ذلك نساء الكفار لئلا يَصفْنَهُنَّ إلى الرجال ، { أو ما ملكت أيمانُهنّ } ، يعني : الإماء المؤمنات أو الكتابيات ، وأما العبيد ففيهم ثلاثة أقوال : منع رؤيتهم لسيدتهم ، وهو قول الشافعي ، والجواز ، وهو قول ابن عباس وعائشة ، والجواز بشرط أن يكون العبد وَغْداً ، وهو قول مالك . قال البيضاوي : رُوي أنه - عليه الصلاة والسلام - أتى فَاطِمَةَ بعبد ، وَهَبَهُ لها ، وعليها ثوب إذا قَنَّعَتْ به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت رجليها لم يبلغ رأسها ، فقال - عليه الصلاة والسلام : " إنه ليس عليك بأسٌ ، إنما هو أبوكِ وغلامُك " ، فانظر من أخرجه . واختلف : هل يجوز أن يراها عبد زوجها ، وعبد الأجنبي ، أم لا ؟ على قولين . { أو التابعين غير أُولِي الإرْبة من الرجالِ } أي : الذين يتبعونكم ليصيبوا من فضل طعامكم ، أو لخدمة ، أو لشيء يُعْطَاهُ ، كالوكيل والمتصرف . وقال بعضهم : هو الذي يتبعك وَهَمُّهُ بَطْنُهُ ، ويشترط ألا تكون له إِربةٌ ، أي : حاجة وشهوة إلى النساء كالخَصِيِّ ، والمُخَنَّثِ ، والشيخ الهَرِم ، والأحمق ، فلا تجوز رؤيتهم إلا باجتماع الشرطين : أن يكونوا تابعين ، ولا إربة لهم في النساء . { أو الطفل الذين لم يَظْهَرُوا على عَوْرَاتِ النساء } ، أراد بالطفل : الجنس ، ولذلك وصفه بالجمع ، ويقال فيه : " طفل " ما لم يراهق الحلُمُ . ويظهروا معناه : يطلعون بالوطء على عورات النساء ، مِنْ : ظهر على كذا : إذا قوي عليه ، فمعناه : الذين لم يطيقوا وطء النساء ، أو : لا يدرون ما عورات النساء ؟ . { ولاَ يضْربنَ بأرجُلهنَّ ليُعْلَم ما يُخفين من زِينَتِهِنَّ } ، كانت المرأة تضرب برجلها الأرض ليسمع قعقعة خلخالها ، فيعلم أنها ذات خُلْخال ، فنُهين عن ذلك إذ سَمَاعُ صَوْتِ الزينة كإظهارها ، فيورث ميل الرجال إليهن . ويوهم أن لهن ميلاً إليهم . قال الزجاج : سماع صوت الزينة أشد تحريكاً للشهوة من إبدائها . هـ . الإشارة : غض البصر عما تُكره رؤيته : من أسباب جمع القلب على الله وتربية الإيمان . وفي الحديث : " من غض بصره عن محارم الله ، عوضه الله إيماناً يجد حلاوته في قلبه " وفي إرسال البصر : مِنْ تشتيت القلب ، وتفريق الهم ، ما لا يخفى ، وفي ذلك يقول الشاعر : @ وإِنَّكَ ، إِنْ أَرْسَلْتَ طَرْفَكَ رَائِداً لِقَلْبِكَ ، يَوْماً ، أَتْعَبَتْكَ المُناظِرُ تَرَى ، ما لاَ كٌلهُ أَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ ، وَلاَ عَنْ بَعْضِه أَنْتَ صَابِرُ @@ فالعباد والزهاد يغضون بصرهم عن بهجة الدنيا ، والعارفون يغضون بصرهم عن رؤية السِّوَى ، فلا يرون إلا تجليات المولى . قال الشبلي : { قٌل لِلمُؤمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أي : أبصار الرؤوس عن المحارم ، وأبصار القلوب عما سِوَى الله . هـ . وقوله تعالى : { ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها } ، قال بعضهم : لا يجوز كل ما يستدعي فِتْنَةً للغير من إظهار حال مع الله ، مما هو زينة السريرة ، فلا يظهر شيئاً من ذلك إلا لأهله ، إلا إذا ظهر عليه شيئ من غير إظهار منه ، ولا قصدَ غير صالح . هـ . فلا يجوز إظهار العلوم التي يفتتن بها الناس من حقائق أسرار التوحيد ، ولا من الأحوال التي تُنكرها الشريعة ، فَيُوقِعُ النَّاسَ في غيبته . وأما قَضِيَّةُ لِصَّ الحَمَّامِ فحال غالبة لا يقتدى بها . والله تعالى أعلم . ثم أمر بالتوبة لأن النظر لا يسلم منه أحد في الغالب . فقال : { … وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ آية : 31 ] يقول الحق جل جلاله : { وتوبوا إلى الله جميعاً أَيُّه المؤمنون } إذ لا يكاد يخلو أحدكم من تفريط ، وَلاَ سيما في الكف عن الشهوات ، وقيل : توبوا مما كنتم تفعلونه في الجاهلية ، فإنه ، وإن جُبّ بالإسلام ، لكن يجب الندم عليه ، والعزم على الكف عنه ، كلما يُتَذَكَّرُ ، ويَخْطِرُ بالبال . وفي تكرير الخطاب بقوله : { أيه المؤمنون } : تأكيد للإيجاب ، وإيذان بأن وصف الإيمان موجب للامتثال ، حَتْماً . قيل : أحوج الناس إلى التوبة من توهم أنه ليس له حاجة إلى التوبة . وظاهر الآية : أن العصيان لا ينافي الإيمان ، فبادروا بالتوبة { لعلكم تفلحون } تفوزون بسعادة الدارين . وبالله التوفيق . الإشارة : التوبة أساس الطريق ، ومنها السير إلى عين التحقيق ، فَمَنْ لاَ تَوْبَةَ لَهُ لا سَيْرَ لَهُ ، كمن يبني على غير أساس . والتوبة يَحْتَاجُ إليها المبتدىء والمتوسط والمنتهي ، فتوبة المبتدىء من المعاصي والذنوب ، وتوبة السائر : من الغفلة ولوث العيوب ، وتوبة المنتهي : من النظر إلى سوى علام الغيوب . قال ابن جزي : التوبة واجبة على كل مكلف ، بدليل الكتاب والسنة وإجماع الأمة . وفرائضها ثلاثة : الندم على الذنب من حيث عُصِيَ به ذو الجلال ، لا من حيث أضر ببدن أو مال . والإقلاع عن الذنب في أول أوقات الإمكان ، من غير تأخير ولا توان ، والعزم ألا يعود إليها أبداً . ومهما قضى الله عليه بالعود ، أحْدَثَ عَزْماً مُجَدَّداً . وآدابها ثلاث : الاعتراف بالذنب ، مقروناً بالانكسار ، والإكثار من التضرع والاستغفار ، والإكثار من الحسنات لمحو ما تقدم من الأوزار . ومراتبها سبع : فتوبة الكفار من الكفر ، وتوبة المُخَلِّطِينَ من الذنوب الكبائر ، وتوبة العدول من الصغائر ، وتوبة العابدين من الفترات ، وتوبة السالكين من عِلَلِ القلوب والآفات ، وتوبة أهل الورع من الشبهات ، وتوبة أهل المشاهدة من الغفلات . والبواعث على التوبة سبعة : خوف العقاب ، ورجاء الثواب ، والخجل من الحساب ، ومحبة الحبيب ، ومراقبة الرقيب ، وتعظيم المقام ، وشكر الإنعام . هـ . ثم أمر بالنكاح ، لأنه أغض للبصر ، فقال : { وَأَنْكِحُواْ ٱلأَيَامَىٰ مِنْكُمْ وَٱلصَّالِحِينَ … }