Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 35-35)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { الله نورُ السموات والأرض } أي : منور أهلهما [ بنور الإسلام والإيمان لأهل الإيمان ] ، وبنور الإحسان لأهل الإحسان ، فحقيقة النور : هو الذي تنكشف به الأشياء على ما هي عليه ، حسية أو معنوية ، والمراد هنا : المعنوية بدليل قوله { يهدي الله لنُوره من يشاء } ، فإن انكشف به أحكام العبودية ، باعتبار المعاملة الظاهرة ، يُسمّى : نُورُ الإسلام ، وإن انكشف به أوصاف الذات العلية وكمالاتها ، من طريق البرهان ، يُسمى : نُور الإيمان ، وإن انكشف به حقيقة الذات وأسرارها ، من طريق العيان ، يُسمى : نور الإحسان . فالأول : يشبه نور النجوم ، والثاني : نور القمر ، والثالث نور الشمس ، ولذلك تقول الصوفية : نجوم الإسلام ، وقمر الإيمان ، وشمس العرفان . ثم ضرب المثل لذلك النور ، حين يقذفه في قلب المؤمن ، فقال { مَثَلُ نُورِهِ } أي : صفة نوره العجيبة في قلب المؤمن - كما هي قراءة ابن مسعود - { كمشكاةٍ } أي : كَصِفَةِ مِشْكَاةٍ ، وهي الكُوَّةُ في الجدار غير النافذة لأن المصباح فيها يكون نوره مجموعاً ، فيكون أزهر وأنور ، { فيها مصباح } أي : سراج ضخم ثاقب ، { المصباحُ في زجاجة } أي : في قنديل من زجاج صافٍ أزهر ، { الزجاجةُ } من شدة صفائها { كأنها كوكب دُرِّيِّ } بضم الدال وتشديد الراء ، منسوب إلى الدر لفرط ضيائه وصفائه ، وبالكسر والهمز : " أبو عمرو " على أنه يدْرأ الظلام بضوئه . وبالضم والهمز : أبو بكر وحمزة ، شبهه بأحد الكواكب الدراري ، كالمشتري والزهرة ونحوهما . { تَوَقَدُ } بالتخفيف والتأنيث ، أي : الزجاجة ، أو { يُوقَدُ } بالتخفيف والغيب ، أو : { تَوَقَّدَ } بالتشديد ، أي : المصباح { من شجرةٍ } أي من زيت شجرة الزيتون ، أي : رويت فتيلته من زيت { شجرةٍ مباركةٍ } كثيرة المنافع ، أو : لأنها تنبت في الأرض التي بارك فيها للعالمين ، وهي الشام ، وقيل : بارك فيها سبعون نبياً ، منهم إبراهيم عليه السلام . { زيتونةٍ } : بدلٌ من { شجرة } ، من نعتها { لا شرقيةٍ ولا غربيةٍ } أي : ليست شرقية فقط ، لا تُصيبها الشمس إلا في حالة الشروق ، ولا غربية ، لا تصيبها إلا في حال الغروب ، بل هي شرقية غربية ، تصيبها الشمس بالغداة والعشي ، فهو أَنْضَرُ لها ، وأجود لزيتونها . وقيل : ليست من المشرق ولا من المغرب ، بل في الوسط منه ، وهو الشام ، وأجودُ الزيتونِ زيتون الشام . { يكادُ زيتُها يٌضيءُ ولو لم تمسسه نارٌ } هو في الصفاء والإنارة بحيث يكاد يضيء بنفسه من غير مسَاس نَارٍ أصلاً . { نورٌ على نورٍ } أي : نور المصباح متضاعف على نور الزيت الصافي ، فهذا مثال النور الذي يقذفه الله في قلب المؤمن فالمشكاة هو الصدر ، والمصباح نور الإيمان أو الإسلام أو الإحسان ، على ما تقدم ، والزجاجة هو القلب الصافي ، ولذلك شبهه بالكوكب الدُرّيّ ، والزيت هو العِلْمُ النافع الذي يقوي اليقين . ولذلك وصفه بالصفاء والإنارة . يكاد صاحبه تشرق عليه أنوار الحقائق ، ولو لم يمسسه علمها . { نورٌ على نورٍ } أي نور الإيمان مُضَافٌ إلى نور الإسلام ، أو نور الإحسان مضاف إلى نور الإيمان والإسلام . { يهدي الله لنوره } أي : لهذا النور الباهر { من يشاء } من عباده إما بإلهام أو بواسطة تعليم . وفيه إيذان بأن مناط هذه الهداية إنما هي بمشيئته تعالى ، وأن الأسباب لا تأثير لها . { ويضرب الله الأمثالَ للناس } تقريباً للفهم ، لأنه إبراز للمعقول في هيئة المحسوس { والله بكل شيءٍعليمٌ } ، معقولاً كان أو محسوساً ، فيبين الأشياء بما يمكن أن تُعْلَم به . والله تعالى أعلم . الإشارة : اعلم أن الكون كله من عرشه إلى فرشه قطْعةٌ من نور الحق ، وسر من أسرار ذاته ، مُلْكٌ ، وباطنه ملكوت فائض من بحر الجبروت ، فالكائنات كلها : الله نُورُها وسرُّها ، وهو القائم بها . ولا يفهم هذا إلا أهل الفناء من العارفين بالله ، وحسبُ من لم يبلغ مقامهم التسليم لما رمزوا إليه ، وتحققوه ذوقاً وكشفاً . ثم ضرب الحقُّ تعالى مثلاً لنوره الفائض من بحر جبروته ، فقال : { مثل نوره } الظاهر ، الذي تجلى به في عالم الشهادة ، { كمشكاة فيها مصباح } أي : كطاقة انفتحت من بحر اللّطَافَةِ الكَنْزِيَّةِ ، خرج منها نور كثيف كالمصباح ، فالكون كله مِصْبَاحُ نورٍ ، انفجر من نور النور ، ومن ذلك المصباح تفرعت الكائنات ، فهي كلها نور فائض من بحر نوره اللطيف ، ثم جعل الحق تعالى يصف ذلك المصباح في توقده وتوهجه بقوله : { المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دُري … } إلخ . فالآية كلها من تتمة التمثيل . وقوله تعالى : { ولو لم تمسسه نار } قيل : الإشارة فيه إلى استغناء العبد في تلك الحالة عن الاستمداد إلا من رب العزة ، فيستغني عن الوسائط . وقوله تعالى : { نورٌ على نور } أي : نور ملكوته على نور جبروته ، { يهدي الله لنوره } أي : لشهود نوره ، أو لمعرفة نوره ، { من يشاء } من خواص أحبابه ، كأنبيائه وأوليائه ، فمن لم يشهد هذا النور ، ولم يعرفه ، لا خصوصية له يتميز بها عن العوام ، فهو من عامة أهل اليمين ، ولو كثر علمه وعمله إذ لا عبرة بالعلم والعمل مع الحِجَاب . وفي الحكَم : " الكائن في الكون ، ولم تفتح له ميادين الغيوب ، مسجون بمحيطاته ، محصور في هيكل ذاته " ، والمحجوب برؤية الأكوان من جملة العوام عند أهل العيان ، ينسحب عليه معنى المثال الآتي في ضد هذا بقوله : أو كظلمات … إلخ . وفي الحِكَم : " الكون كله ظلمة ، وإنما أناره ظهورُ الحَقِّ فيه ، فمن رأى الكون ولم يشهده فيه ، أو عنده ، أو قبله أو بعده ، فقد أعوزه وجود الأنوار ، وحجبت عنه شموس المعارف بسُحب الآثار " . فالكون عند أهل العيان كله نور ، وعند أهل الحجاب كله ظلمة ، وهو محيط بهم ، فالظلمة محيطة بهم ، وقد ألف الغزالي في هذه الآية كتابه : مشكاة الأنوار ، وكلامه فيه يدور على أن معنى اسمه تعالى " النور " : يرجع إلى ما ثبتت به الأشياء وظهرت من العدم ، ولذلك قال قائلهم : @ فَالنُّورُ يُظْهِرُ مَا تَرَى مِنْ صُورَةٍ وبه ظهور الكَائِنَاتِ بِلاَ امْتِرَاءِ @@ وفي لطائف المنن : الله نور السموات والأرض نور سموات الأرواح بمشاهدته ، ونور أرض النفوس بمطالعته وخدمته ، وجعل قلوب أوليائه مَجْلاَةً لذاته ولظهور صفاته ، أظهرهم ليظهر فيهم خصوصاً ، وهو الظاهر في كل شيء عموماً ، ظهر فيهم بأنواره وأسراره ، كما ظهر فيهم ، وفيما عداهم بقدرته واقتداره . هـ . ثم ذكر محل ظهور ذلك المصباح ، فقال : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ ٱللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ … }