Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 43-44)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { ألم ترَ أن الله يُزْجِي } أي : يسوق ، برفق وسهولة ، { سَحَاباً } : جمع سحابة ، { ثم يُؤلِّف بينه } أي : يضم بعضه إلى بعض ، { ثم يجعله رُكاماً } متراكماً بعضه فوق بعض ، { فَتَرى الوَدْقَ } : المطر ، { يخرجُ من خِلالِه } من فُتُوقِهِ ووسطه ، جمع خَلل ، كجبال وجبل ، وقيل : مفرد ، كحجاب وحجاز . قال القشيري : ترتفع بقدرته بُخَارَاتُ البحر ، فيتصعد ، بتسييره وتقديره ، إلى الهواء ، وهو السحاب ، ثم يديره إلى سَمْتِ يريد أن ينزل به المطر ، ثم ينزل ما في السحاب من ماء البحر ، قطرة قطرة ، ويكون الماء ، حين حصوله في بخارات البحر ، غير عذب ، فيقلبه عذباً ، ويَسُحُّهُ السحابُ سَكْباً ، فيوصل إلى كلِّ موضع قَدْراً يكون له مُراداً معلوماً ، لا بالجهدِ مِنَ المخلوقين يُمْسَكُ عن المواضع الذي عليه ينزله ، ولا بالحيلة يُسْتَنْزلُ على المكانِ الذي لا يُمْطِره . هـ . قلت : وهذا أحد الأقوال في حقيقة المطر ، والمشهور عند أهل السنة : أن الله تعالى يُنْشِىءُ السحاب بقدرته ، ويخلق فيه الماء بحكمته ، وينزله حيث شاء . ثم قال تعالى : { ويُنزِّل من السماء من جبالٍ فيها من بَرَدٍ } ، " مِنْ " الأولى : لابتداء الغاية ، والثانية : بدل من الأولى ، والثالثة : لبيان الجنس ، أي : يُنَزِّل البَرَد ، وهو الثلج المكور ، من السماء ، أي : الغمام العلوي ، فكل ما علاك سماء ، من جبال فيها كائنة من البَرَد ، ولا غرابة في أن الله يخلق في السماء جِبَالَ بَرَدٍ كما خلق في الأرض جبال حجر . قال ابن جزي : قيل : إن الجبال هنا حقيقة ، وإن الله جعل في السماء جبالاً من بَرَد ، وقيل : إنه مجاز ، كقولك : عند فلان جبال من مال أو عِلم ، أي : هن في الكثرة مثل الجبال . هـ . وأصله لابن عطية . وقال الشيخ أبو زيد الثعالبي : حَمْلُ اللفظ على حقيقته أولى ، إن لم يمنع من ذلك مانع . هـ . يعني : ولا مانع هنا ، فيحمل على ظاهره ، وإن الله خلق جبال بَرد في السماء . وقال الهروي عن ابن عرفة - يعنى اللغوي - : سمعت أحمد بن يحيى يقول : فيه قولان : أحدهما : وينزل من السماء بَرَدَاً من جبال في السماء من برد والآخر : وينزل من السماء أمثال الجبال من البَرَد . ويقال : إنما سمي برَدَاً لأنه يَبْرُدُ وجه الأرض أي : يُقشره . هـ . قال البيضاوي : إن الأبخرة إذا تصاعدت ولم يتخللها حرارة ، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء ، وقوي البرد هناك ، اجتمع وصار سحاباً ، فإن لم يشتد البرد تقاطر مطراً ، وإن اشتد ، فإن وصل إلى الأجزاء البخارية قبل اجتماعها ، نزل ثلجاً ، وإلاّ نزل بَرَداً ، وقد يبرد الهواء برداً مفرطاً فينقبض ، وينعقد سحاباً ، وينزل منه المطر أو الثلج . وكل ذلك لا بد وأن يُسْنَدَ إلى إرادة الواجب الحكيم لقيام الدليل على أنها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالِّها وأوقاتها ، وإليه أشار بقوله : { فيُصيبُ به من يشاء ويصْرِفُهُ عمن يشاء } والضمير للبرَد . هـ . أي : فيصيب بذلك البَرَد من يشاء أن يصيبه به ، فيناله ما ناله من ضرره في بدنه وماله من زرع أو غيره . { ويَصْرِفُه عمن يشاء } أن يصرفه عنه ، فينجو من غائلته . { يكاد سَنَا بَرْقِهِ } أي : ضوء برق السحاب ، الموصوف بما مر من الإزجاء والتآلف . وإضافة البرق إليه ، قبل الإخبار بوجوده ، فيه إيذان بظهور أمره واستغنائه عن التصريح به . وقيل : الضمير للسماء ، وهو أقرب ، أي : يكاد ضوء برق السماء ، ويحتمل أن يعود على " الله " تعالى لتقدم ذكره ، أي : يكاد ضوء برقه تعالى { يذهب بالأبصار } ، أي : يخطفها من فرط الإضاءة ، وسرعة ورودها ، ولو عند إغماضها . { يُقلِّبُ الله الليلَ والنهارَ } أي : يصرفهما بالتعاقب ، فيأتي هذا بعد هذا ، أو بنقصِ أحدهما وزيادة الآخر ، أو بتغيير أحوالهما بالحر والبرد وغيرهما . { إن في ذلك } ، الإشارة إلى ما فصل آنفاً ، أي : إن في إزجاء السحاب ، وإنزال الودق ، وتقليب الليل والنهار ، { لعبرةً } لَدَلاَلَةً واضحة على وجود الصانع القديم ، القائم بالأشياء ، والمدبر لها بقدرته وحكمته ، { لأُولي الأبصار } لذوي العقول الصافية . وهذا من تعدد الدلائل على ظهور نوره تعالى في الكائنات ، حيث ذكر تسبيح مَنْ في السموات والأرض ما يطير بينهما وخضوعهم له ، وتسخير السحاب وإنزال الأمطار ، وتقليب الليل والنهار ، إلى غير ذلك من لوامح الأنوار . والله تعالى أعلم وأحكم . الإشارة : ألم تر أن الله يُزجي سحابَ الواردات الإلهية ، تحمل العلوم اللدنية ، ثم يُؤلف بينه حتى يكون قوياً ، يُقتطع به صاحبه عن حسه ، ويغيبه عن أمسه ورسمه ، فترى أمطار العلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، والفتوحات العرفانية ، تخرج من خلاله ، أي : من قلب العارف ، وهي نتائج الواردات وثمراتها . وفي الحِكَم : " لا تزكين وارداً لم تعلم ثمرته ، فليس المراد من السحابة الأمطار ، وإنما المراد منها وجود الأثمار " . وينزل من سماء الأرواح من جبالِ عقولٍ ، فيها علم الرسوم الظاهرة ، فيصيب به من يشاء ، ممن أريد لحمل الشرائع والقيام بها ، ويصرفه عمن يشاء ، ممن أريد أن يكون من عامة الناس ، أو من خاصتهم . إن هبت عليه رياح الحقائق ، فأمطرت على قلبه العلوم الغيبية فأغنته عن العلوم الرسمية ، يكاد سنا برقه الساطع لقلوب أوليائه ، وهو سطوع أنوار الملكوت وأسرار الجبروت ، فإنها تكون أولاً كالبرق ، تلمع وتخفي ، ثم يتصل ورودها وشروقها ، فتكون متصلة البروق دائمة الشروق ، نهار بلا ليل ، واتصال بلا انفصال ، ووصال بلا انقطاع . وفي ذلك يقول القائل : @ طلعت شمسُ مَنْ أُحِبُّ بِلَيْلٍ وَاسْتَنَارَتْ ، فَمَا تَلاَهَا غُرُوبُ إنَّ شَمْسَ النهار تَغْربُ بالليل وشَمْسَ القُلُوبِ ليْس لَهَا مَغِيبُ @@ يقلب الله ليل القبض على نهار البسط ، ونهار البسط على ليل القبض ، حتى يتصل النهار بالخروج عنهما ، ليكون لله ، لاشيء دونه . وبالله التوفيق . ولمّا ذكر التجليات العلوية ذكر التجليات السفلية فقال : { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ … }