Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 24, Ayat: 55-56)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : ليستخلفنهم : جواب لقسم مضمر ، أو تنزيل وعْده تعالى منزلة القسم ، و كما : الكاف : محلها النصب على المصدر التشبيهي ، أي : استخلافاً كائناً كاستخلافه مَنْ قَبْلَهُمْ . و ما : مصدرية . و يعبدونني : حال من الموصول الأول ، مقيدة للوعد بالثبات على التوحيد ، أو استئنافٌ ببيان مقتضى الاستخلاف ، و لا يشركون : حال من واو يعبدونني . يقول الحق جل جلاله : { وعد الله الذين آمنوا منكم } أي : كل من اتصف بالإيمان بعد الكفر من أي طائفة كان ، وفي أي وقت وجد ، لا من آمن من المنافقين فقط ، ولا من آمن بعد نزول الآية الكريمة ، بحسب ظهور الوعد الكريم . و من : للبيان . وقيل : للتبعيض ، ويراد المهاجرون فقط . { وعملوا } مع الإيمان الأعمال { الصالحات } ، وتوسيط المجرور بين المَعْطُوفَيْنِ لإظهار أصالة الإيمان وعراقته في استتباع الآثار والأحكام ، والإيذان بكونه أول ما يطلب منهم ، وأهم ما يجب عليهم . وأما تأخيره في قوله : { وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً } [ الفتح : 29 ] فإن الضمير للذين آمنوا معه صلى الله عليه وسلم فلا ريب أنهم جامعون بين الإيمان والأعمال الصالحة ، مثابون عليها ، فلا بد من ورود بيانهم بعد نعوتهم الجليلة بكمالها . ثم ذكر الموعود به ، فقال : { لَيستخلفنَّهم في الأرض } أي : لَيجعلهم خلفاء متصرفين فيها تصرف الملوك في مماليكهم ، والمراد بالأرض : أرض الكفار كلها ، لقوله عليه الصلاة والسلام : " ليدخلن هذا الدين ما دخل الليل والنهار " ، { كما استخلف الذين مِن قبلهم } كبني إسرائيل ، استخلفهم الله في مصر والشام ، بعد إهلاك فرعون والجبابرة ، ومَنْ قَبْلَهم مِن الأمم المؤمنة التي استخلفهم الله في أرض من أهلكه الله بكفره . كما قال تعالى : { فَأَوْحَىٰ إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ ٱلظَّالِمِينَ وَلَنُسْكِنَنَّـكُمُ ٱلأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ } [ إبراهيم : 13 ] . { وليُمَكِّنَنَّ لهم دينَهم } : عطف على { ليستخلفنهم } ، داخل معه في سلك الجواب ، وتأخيره عنه مع كونه أصل الرغائب الموعودة وأعظمها لأن النفوس إلى الحظوظ العاجلة أميل ، فَتصْدير المواعد بها في الاستمالة أدخل ، والمعنى : ليجعل دينهم ثابتاً متمكناً مقرراً لا يتبدل ولا يتغير ، ولا تنسخ أحكامه إلى يوم القيامة . ثم وصف بقوله : { الذي ارتضى لهم } ، وهو دين الإسلام ، وصفه بالارتضاء تأليفاً ومزيدَ ترغيب فيه وفضْلَ تثبيت عليه . { وليُبدِّلنهُمْ } بالتشديد والتخفيف من الإبدال ، { من بعد خوفهم } من الأعداء { أمناً } . نزلتْ حيث كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة عشر سنين ، أو أكثر ، خائفين ، ولَمَّا هاجروا كانوا بالمدينة يُصْبِحُون في السلاح ويُمْسُون فيه ، حتى قال رجل : ما يأتي علينا يوم نأمن فيه ، ونضع السلاح ، فلما نزلت ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا تصبرون إلا يسيراً حتى يَجْلِسَ الرجل منكم في الملأِ العظيم ، مُحْتبياً ، ليس معه حديدة " ، فأنجز الله وعده ، فأمِنُوا ، وأظهرهم على جزيرة العرب ، وفتح لهم بلاد المشرق والمغرب ، ومزقوا ملك الأكاسرة ، وملكوا خزائنهم ، واستولوا على الدنيا بحذافيرها . وفيه من الإخبار بالغيب ما لا يخفى . وقيل : الخوف والأمن في الآخرة . ثم مدحهم بالإخلاص فقال : { يعبدونني } وحدي ، { لا يُشركون بي شيئاً } أي : حال كونهم موحدين غير مشركين بي شيئاً من الأشياء ، شركاً جلياً ولا خفياً لرسوخ محبتهم ، فلا يُحبون معه غيره ، { ومن كَفَر بعد ذلك } أي : بعد الوعد الكريم ، كفرانَ النعمة ، أو الرجوع عن الإيمان ، كما فعل أهلُ الردة ، { فأولئك هم الفاسقون } الكاملون في الفسق ، حيث كفروا تلك النعمة بعد ظهور عزها وأنوارها ، قيل : أول من كفر هذه النعمة قتلةُ عثمان رضي الله عنه فاقتتلوا بعد ما كانوا إخواناً . والآية أوضح دليل على صحة خلافة الخلفاء الراشدين لأن المستخلَفين الذين آمنوا وعملوا الصالحات على ما ينبغي هم الخلفاء - رضي الله عنهم - . ولمّا كان كفر من كفر بعد الوعد إنما كان بمعنى بمنع الزكاة ، قرَنَه مع الصلاة في الأمر به فقال : { وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاةَ } فمن فرّق بينهما فقد كفر ، وكان من الفاسقين . { وأطيعوا الرسولَ } فيما دعاكم إليه وأمركم به ، ومن جملة ما أمر به : طاعة أمرائه وخلفائه لقوله : " عليكم بسنتي ، وسنَّة الخلفاء الراشدين من بعدي ، عَضُّوا عليها بالنواجذ " ، فمن امتنع من دفع الزكاة لخليفته - كما فعل أهل الردة - فقد كفر ، ومن أداها إليه كما أمره الله فقد استوجب الرحمة ، لقوله : { لعلكم تُرحمون } أي : لكي تُرحموا ، فإنها من مُسْتَجلبَاتِ الرحمة . والله تعالى أعلم . الإشارة : سنة الله تعالى في خواصه : أن يُسلط عليهم في بدايتهم الخَلْقَ ، فينُزل بهم الذلَ والفقرَ والخوفَ من الرجوع عن الطريق ، ثم يُعزهم ، ويُمكن لهم دينهم الذي ارتضى لهم ، ويبدلهم من بعد خوفهم أمناً ، كما قال الشاذلي رضي الله عنه : اللهم إن القوم قد حكمت عليهم بالذل حتى عزوا … إلخ كلامه . قال القشيري : وفي الآية إشارة إلى أئمة الدين ، الذين هم أركان السُنَّة ودعائم الإسلام ، الناصحون لعباد الله ، الهادون من يسترشد في الله . ثم قال : فأما حُفاظ الدين فهم الأئمة والعلماء الناصحون لدين الله ، وهم أصناف : قومٌ هم حفَّاظُ أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم ، وحُفّاظُ القرآن ، وهم بمنزلة الخزنة ، وقوم هم علماء الأصول ، الرادُّون على أهلِ العناد ، وأصحاب الابتداع ، بواضح الأدلة ، وهم بطارِقَةُ الإسلام وشجعانُه ، وقوم وهم الفقهاء المرجوعُ إليهم في علوم الشريعة وفي العبادات وكيفية المعاملات ، وهم من الدين بمنزلة الوكلاء والمتصرفين في المُلْك ، وآخرون هم أهل المعرفة وأصحاب الحقائق ، وهم في الدِّين كخواص الملك وأعيان مجلس السلطان وأرباب الأسرار ، الذين لا يبرحون في عالي مجلس السلطان ، فالدين معمورٌ بهؤلاء على اختلافهم إلى يوم القيامة . هـ . تقدم ومثله في قوله : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ } [ التوبة : 122 ] . والله تعالى أعلم . ثم ذكر الفريق الثالث ، وهم الكفرة ظاهراً وباطناً ، فقال : { لاَ تَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ … }