Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 21-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : وقال : عطف على : وقالوا مال هذا الرسول … إلخ ، ووضع الموصول موضع الضمير للتنبيه بما في حيز الصلة على أن ما حكي عنهم مِنَ الشناعة بحيث لا يصدر ممن يعتقد المصير إلى الله - عز وجل - . يقول الحق جل جلاله : { وقال الذين لا يرجون لقاءنا } أي : لا يتوقعون الرجوع إلينا بالبعث ، أو حسابنا المؤدي إلى سوء العذاب ، الذي تستوجبه مقالاتهم الشنيعة . والحاصل : أنهم يُنكرون البعث بالكلية ، فأطلق الرجاء على التوقع . وقيل : لا يخافون لقاءنا لأن الرجاء في لغة تهامة : الخوف ، قالوا : { لولا } هلا { أنزل علينا الملائكةُ } رسلاً دون البشر ، أو : يشهدون بنبوة محمد ودعوى رسالته ، { أو نرى ربَّنا } جهرة ، فيخبرنا برسالته ، ويأمرنا باتباعه ، وإنما قالوا ذلك عناداً وعتواً . قال تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم } أي : أضمروا الاستكبار ، وهو الكفر والعناد في قلوبهم ، أو : عظموا في أنفسهم حتى اجترؤوا على التفوه بمثل هذه العظيمة الشنعاء ، { وعَتَواْ } أي تجاوزوا الحد في الظلم والطغيان { عُتواً كبيراً } بالغاً أقصى غاياته ، أي : إنهم لم يجترئوا على هذا القول العظيم إلا لأنهم بلغوا غاية الاستكبار ، وأقصى العتو ، حتى أمَّلوا نيل المشاهدة والمعاينة والمفاوضة التي اختص بها أكابر الرسل وخاصة الأولياء ، بعد تطهير النفوس وتصفية القلوب والأرواح . وهذا كقولهم : { وَقَالُوا لَن نُّؤْمِنَ لَكَ … } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { أَوْ تَأْتِىَ بِاللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] . ولم يكتفوا بما رأوا من المعجزات القاهرة فذهبوا في الاقتراح كل مذهب ، حتى منَّتهم أنفسهم الخبيثة أمالي سُدت دونها مطامع النفوس القدسية . واللام : جواب قسم محذوف ، أي : والله لقد استكبروا … الآية . وفيه من الدلالة على قُبح ما هم عليه ، والإشعار بالتعجب من استكبارهم وعتوهم ، ما لا يخفى . { يوم يَرَون الملائكةَ } عند الموت أو البعث . و { يوم } : منصوب باذكر ، أو بما دل عليه : { لا بُشرى يومئذٍ للمجرمين } فإنه بمعنى : يُمنعون البشرى ، أو : لا يبشر المجرمون . انظر البيضاوي . والجملة : استئناف مسوق لبيان ما يلقونه عند مشاهدتهم لما اقترحوه من نزول الملائكة ، بعد استعظامه وبيان كونه في غاية ما يكون من الشناعة . وإنما قيل : يوم يرون ، دون أن يقال : يوم تنزل إيذاناً ، من أول الأمر ، بأن رؤيتهم لهم ليست على طريق الإجابة إلى ما اقترحوه ، بل على وجه آخر غير معهود . وتكرير يومئذٍ لتأكيد التهويل ، مع ما فيه من الإيذان بأن تقديم الظرف للاهتمام ، لا لِقَصْرِ نَفْي البُشرى على ذلك الوقت فقط فإن ذلك مُخل بتفظيع حالهم . وللمجرمين : تعيين على أنه مظهر ، وُضِعَ موضع الضمير تسجيلاً عليهم بالإجرام ، مع ما هم عليه من الكفر والطغيان . { ويقولون حِجْراً محجوراً } على ما ذكر من الفعل المنفي ، أي : لا يبشرون ، ويقولون . وهو ينبئ عن كمال فظاعة ما يحيق بهم من الشر ، وغاية هول مطلعه ، أي : يقولون ، عند مشاهدة ملائكة العذاب : حِجْراً محجوراً ، أي : منعاً ممنوعاً منكم ، وهي كلمة تقولها العرب عند لقاء عدو هائل ، أو هجوم نازلة هائلة ، يضعونها موضع الاستعاذة ، فكأن المعنى : نسأل الله تعالى أن يمنع ذلك عَنَّا منعاً ، ويحجره عنا حجراً . والمعنى : أنهم يطلبون نزول الملائكة - عليهم السلام - ويقترحونه ، وهم إذا رأوهم كرهوا لقاءهم أشد كراهة ، وفزعوا منهم فزعاً شديداً . وقالوا ، عند رؤيتهم ، ما كانوا يقولون عند نزول خطب شنيع وبأس فظيع . وقيل : هو قول الملائكة ، أي : تقول الملائكة للمجرمين ، حين يرونهم : حِجْراً محجوراً ، أي : حراماً محرماً عليكم البشرى ، أي : جعل الله ذلك حراماً عليكم ، إنما البشرى للمؤمنين . و الحجر : مصدر ، يُفتح ويكسر ، وقرئ بهما . من حَجَرَهُ إذا منعه . وهو من المصادر المنصوبة بأفعال متروك إظهارها . ومحجوراً : لتأكيد معنى الحجر ، كما قالوا : موت مائت . وانظر ما وُجِّه بِهِ وقْفُ الهبطى على " حِجْراً " فلعله الأوجه له . ثم ذكر مآل أعمالهم ، فقال : { وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثوراً } الهباء : شِبْهُ غُبَارٍ يُرى في شعاع الشمس ، يطلع من كُوَّة . والقدوم هنا : مجاز . مُثلتْ حال هؤلاء الكفرة وأعمالهم التي عملوها في كفرهم من صلة رحم ، وإغاثة ملهوف ، وقِرى ضيف ، وعِتقٍ ، ونحو ذلك ، بحال من خالف سلطانه ، فقدم إلى أشيائه ، وقصد إلى ما تحت يديه ، فأفسدها ، ومزقها كل ممزق ، ولم يترك لها عيناً ولا أثراً ، أي : عمدنا إليها وأبطلناها ، أي : أظهرنا بطلانها بالكلية ، من غير أن يكون هناك قدوم . والمنثور : المفرّق ، وهو استعارة عن جَعْلِهِ لا يقبل الاجتماع ولا يقع به الانتفاع . ثم ذكر ضدهم ، فقال : { أصحابُ الجنة يومئذٍ خيرٌ مُستقراً } أي : مكاناً يستقرون فيه ، والمستقر : المكان الذي يستقر فيه في أكثر الأوقات ، للتجالس والتحادث ، { وأحسن مَقِيلاً } : مكاناً يأوون إليه للاسترواح إلى أزواجهم . ولا نوم في الجنة ، ولكنه سمي مكان استرواحهم إلى أزواجهم الحور مقبلاً على طريق التشبيه . ورُوي أنه يفرغ من الحساب في نصف ذلك اليوم ، فيقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار . وقال سعيد الصواف : بلغني أن يوم القيامة يقصر على المؤمنين ، حتى يكون ما بين العصر إلى غروب الشمس ، إنهم ليقيلون في رياض الجنة حتى يفرغ من حساب الناس . وقرأ هذه الآية . هـ . وأما الكافر فيطول عليه ، كما قال تعالى : { فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] . قال أبو السعود : وفي وصفه بزيادة الحسن ، مع حصول الخيرية ، رمز إلى أنه مزين بفنون الزين والزخارف . والتفضيل المعتبر فيهما : إما لإرادة الزيادة على الإطلاق ، أي : هم في أقصى ما يكون من خيرية المستقر وحسن المقيل ، وأما بالإضافة إلى ما للكفرة المتنعمين في الدنيا ، أو إلى ما لهم في الآخرة ، بطريق التهكم بهم ، كما مرّ في قوله : { أذلك خير . … } الآية . هـ . الإشارة : هؤلاء طلبوا الرؤية قبل إِبَّانِهَا وتحصيل شروطها ، وهي الإيمان بالله ، والإخلاص ، والخضوع لمن يدل على الله ، وذل النفس وتصغيرها في طلب الله . ولذلك قال تعالى في وصفهم - الذي منعهم من شهوده تعالى : { لقد استكبروا في أنفسهم وعَتَوْا عتواً كبيراً } أي : ولو صغروا في أنفسهم ، وخضعوا خضوعاً كبيراً لحصل لهم ما طلبوا ، ولبُشروا بما أملوا ، وفي ذلك يقول الشاعر : @ تَذَلَّلْ لِمنْ تَهْوَى فَلَيْسَ الْهَوى سَهْلُ إِذَا رَضِيَ المحبوبُ صَحّ لَكَ الوَصْلُ تذلَّلْ لَهُ تَحْظَى بِرُؤيَا جَمالِهِ فَفِي وَجْهِ مَنْ تَهْوَى الْفَرَائِضُ والنَّفْلُ @@ وقيل لأبي يزيد رضي الله عنه ، حين قام يصلي بالليل : يا أبا يزيد ، خزائننا معمورة بالخدمة ، ائتنا من كُوّة الذل والافتقار . وقال الشيخ عبد القادر الجيلاني رضي الله عنه : أتيت الأبواب كلها فوجدت عليها الزحام ، فأتيت باب الذل والفقر فوجدته خالياً ، فدخلت وقلت : هلموا إلى ربكم . أو كما قال . وفي قوله تعالى : { وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ … } الخ ، الترغيب في الإخلاص الموجب لقبول الأعمال ، والترهيب من الرياء والعجب ، الموجبان لإحباط الأعمال . وفي حديث معاذ عنه صلى الله عليه وسلم : " إن الله خلق سبعة أملاك قبل خلق السموات ، ووكل كل مَلَكٍ بباب من أبواب السماء ، فتصعد الحَفَظَةُ بعمل العبد إلى السماء الأولى فيقول المَلَكُ : ردوه ، واضربوا به وجهه إنَّ صاحبه كان يغتاب الناس ، تم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثانية ، فيقول الملك : ردوه إنه كان يفتخر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الثالثة فيقول الملك : ردوه إنه كان يتكبر على الناس في مجالسهم ثم تصعد الحفظة بعمل العبد إلى السماء الخامسة فيقول الملك : ردوه إنه كان يحسد الناس ويقع فيهم ، ثم تصعد الحفظة إلى السماء السادسة ، فيقول الملك : ردوه إنه كان لا يرحم إنساناً قط بل كان يشمت بمن وقع في بلاء أنا ملك الرحمة أمرني ألا يجاوزني عمله . ثم تصعد الحفظة إلى السماء السابعة فيقول الملك : ردوه إنه كان يحب الظهور والرفعة عند الناس ، ثم تصعد الحفظة بعمل العبد من صلاة ، وذكر ، وتفكر ، وحسن خلق ، فيقفون بين يدي الله ، ويشهدون له بالصلاح ، فيقول الرب جل جلاله : أنتم الحفظة على عمل عبدي ، وأنا الرقيب على قلبه ، إنه لم يُرِدْنِي بهذا العمل ، أراد به غيري ، فعليه لعنتي ، ثم تلعنه الملائكة والسموات . وانتهى باختصار ، وخرجه المنذري . وتكلم في وضعه . وبالله التوفيق . ثم ذكر موطناً آخر لرؤية الملائكة على نمط ما تقدّم ، فقال : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ ٱلسَّمَآءُ … }