Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 25, Ayat: 20-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : كُسرت إنَّ لأجل اللام في الخبر . والجملة بعد إلا : صفة لمحذوف ، أي : وما أرسلنا قبلك أحداً من المرسلين إلا آكلين وماشين ، وإنما حذف اكتفاء بالجار والمجرور ، يعني من المرسلين ، وهو كقوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } [ الصافات : 164 ] ، أي : وما منا أحد . وقيل : هي حال ، والتقدير : إلا وأنهم ليأكلون . يقول الحق جل جلاله : في الجواب المشركين عن قولهم : { مَالِ هَـٰذَا ٱلرَّسُولِ يَأْكُلُ ٱلطَّعَامَ وَيَمْشِى فِى ٱلأَسْوَاقِ } [ الفرقان : 7 ] تسلية لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا } وَصِفَتُهُمْ { إِنهم لَيأْكُلون } بشر يأكلون { الطعامَ } ، مفتقرون إليه في قيام بنيتهم ، { ويمشون في الاسواق } في طلب حوائجهم ، فليس ببدع أن تكون أنت كذلك ، { وجعلنا بعضهم لبعض فتنةً } أي : محنة ، وهو التعليل لما قبله ، أي : إنما جعلت الرسل مفتقرين للمادة ، وفقراء من المال ، يمشون في الاسواق لطلب المعاش ابتلاء ، وفتنة ، واختباراً لمن تبعهم ، من غير طمع ، ولم يعرض عنهم لأجل فقرهم ، فقد جعلت بعضكم لبعض فتنة . قال ابن عباس : أي : جعلت بعضكم بلاءً لبعض لتصبروا على ما تسمعون منهم ، وترون من خلافهم ، وتتبعوا الهدى بغير أن أعطيكم عليه الدنيا ، ولو شئتُ أن أجعل الدنيا مع رسلي ، فلا يخالَفون ، لفعلت ، ولكن قدرت أن أبتلي العباد بكم وأبتليكم بهم . هـ . فالحكمة في فقر الرسل من المال : تحقيق الإخلاص لمن تبعهم ، وإظهار المزية لهم حيث تبعوهم بلا حرف . قال النسفي : أو جعلناك فتنة لهم لأنك لو كنت صاحب كنوز وجنات لكانت طاعتهم لأجل الدنيا ، أو ممزوجة بالدنيا ، فإنما بعثناك فقيراً لتكون طاعة من يطعيك خالصة لنا . هـ . قال في الحاشية : وقد قيل : إن الدنيا دار بلاء وامتحان ، فأراد تعالى أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض ، على العموم في جميع الناس : مؤمن وكافر ، بمعنى : أن كل واحد مُخْتَبَرٌ بصاحبه ، فالغنى ممتحن بالفقير ، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه . والفقير ممتحن بالغنى ، عليه ألا يحسده ، ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه ، وأن يصبر كل واحد منهما على الحق الذي عليه ، وتوجه إليه من ذلك لأن الدار دار تكليف بموجبات الصبر ، وقد جعل تعالى إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين ، واختباراً لهم . ولمّا صبروا نزل فيهم : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ ٱلْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوۤاْ } [ المؤمنون : 111 ] . والحاصل : أن الله تعالى دبَّر خلقه ، وخص كلاَّ بما شاء ، من غِنى أو فقر ، أو علم أو جهل ، أو نبوة أو غيرها . وكذا سائر الخصوصيات ليظهر من يسلّم له حُكمه وقسمته ، ومن ينازعه في ذلك ، ومن يؤدي حق ما توجه عليه من ذلك فيكون شاكراً صابراً ، ومن لا ، وهو أعلم بحكمته في ذلك ، ولذلك قال : { وكان ربك بصيراً } . هـ . وقال مقاتل : نزلت في أبي جهل ، والوليد بن عتبة ، والعاص ، حين رأوا أبا ذر وعماراً وصهيباً ، وغيرهم من الفقراء المسلمين ، قالوا : أنسلم فنكون مِثل هؤلاء ؟ فنزلت الآية ، تخاطب هؤلاء المؤمنين : أتصبرون على هذه الحالة من الشدة والفقر ؟ هـ . قال النسفي : أتصبرون على هذه الفتنة فتؤجروا ، أم لا تصبرون فيزداد غمّكم ؟ حكي أن بعض الصالحين تبرّم بضنك عيشه ، فخرج ضجِراً ، فرأى خصياً في مواكب ومراكب ، فخطر بباله شيء ، فإذا بقارئ يقرأ هذه الآية ، فقال : بل نصبر ، ربّنا . هـ . قال القشيري : هو استفهام بمعنى الأمر ، فمن قارنه التوفيقُ صبر وشكر ، ومن قارنه الخذلان أبى وكفر . هـ . وقيل : هو الأمر بالإعراض عما جعل في نظره فتنة ، كما قال : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } [ طه : 131 ] ، فينبغي ألا ينظر بعض إلى بعض ، إلا لمن دونه ، كما ورد في الخبر . هـ . { وكان ربك بصيراً } عالماً بالحكمة فيما يَبْتلِي به ، أو : بمن يصبر ويجزع . وقال أبو السعود : هو وعد كريم لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالأجر الجزيل لصبره الجميل ، مع مزيد تشريف له - عليه الصلاة والسلام - بالالتفات إلى إسم الرب مضافاً إلى ضميره صلى الله عليه وسلم . هـ . الإشارة : الطريق الجادة التي درج عليها الأنبياء والأولياء هي سلوك طريق الفقر والتخفيف من الدنيا ، إلا قدر الحاجة ، بعد التوقف والاضطرار ، ابتداءً وانتهاء ، حتى تحققوا بالله . ومنهم من أتته الدنيا بعد التمكين فلم تضره . والحالة الشريفة : ما سلكها نبينا صلى الله عليه وسلم وهو التخفيف منها وإخراجها من اليد ، حتى مات ودرعه مرهونة عند يهودي ، في وسق من شعير . وعادته تعالى ، فيمن سلك هذا المسلك ، أن يُديل الغنى في عقبه ، فيكونون أغنياء في الغالب . والله تعالى أعلم . وما وَصَف به الحق تعالى رسله من كونهم يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، هو وصف للأولياء أيضاً - رضي الله عنهم - فيمشون في الأسواق للعبرة والاستبصار في تجليات الواحد القهار ، فحيث يحصل الزحام يعظم الشهود للملك العلام ، وفي ذلك يقول الششتري رضي الله عنه : عين الزحام هو الوصول لِحَيِّنا . وكان شيخ أشياخنا - سيدي علي العمراني - يقول لأصحابه : من أراد أن يذوق فليمش إلى السوق . هـ . فينبغي للمريد أن يربي فكرته في العزلة والخلطة والخلوة والجلوة ، ولا يقتصر على تربيتها في العزلة فقط لئلا يتغير حاله في حال الخلطة فيبقى ضعيفاً . فالعزلة تكون ابتداء ، قبل دخول بلاد المعاني ، فإذا دخل بلاد المعاني فليختر الخلطة على العزلة ، حتى يستوي قلبه في الخلوة والجلوة ، فالعزلة عن الناس عزلة الضعفاء والعزلة بين الناس عزلة الأقوياء . فالمشي في الأسواق والأكل فيها سنة الفقراء ، أهل الأحوال مجاهدةً لنفوسهم ، وترييضاً لها على إسقاط مراقبة الخلق ، والخوف منهم . وقد ورد أن الله تعالى أمر بذلك نبيه صلى الله عليه وسلم تشريفاً لأهل الأحوال ، كما ذكره صاحب اللباب عند قوله : { مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق … } . ومن آداب الداخل في السوق : أن يكون ماشياً على رجليه ، لا راكباً ، كما وصف الله تعالى الرسل - عليهم السلام . وفي قوله تعالى : { وجعلنا بعضكم لبعض فتنة أتصبرون } : تسلية لمن يُبْتَلَى من الأولياء ، وتهوين له على ما يلقاه من شدائد الزمان ، وإذاية الإخوان ، وجفوة الناس . وبالله التوفيق . ثم ذكر مقالة أخرى من أقاويل الكفرة ليبطلها كما أبطل ما قبلها ، فقال : { وَقَالَ ٱلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا … }