Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 25, Ayat: 58-60)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { وتوكَّلْ على الحيّ الذي لا يموتُ } في الاستكفاء عن شرورهم ، والاغتناء عن أجورهم ، أي : ثق به فإنه يكفيك عن الطمع فيمن يموت ، فلا تطلب على تبليغك من مخلوق أجراً ، فإن الله كافيك . قرأها بعض الصالحين فقال : لا يصح لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق . { وسَبَّحْ } أي : ونزهه أن يكل إلى غيره مَنْ تَوَكَّلَ عليه ، { بحمده } أي : بتوفيقه الذي يوجب الحمد ، أو : قل سبحان الله وبحمده ، أو : نزهه عن صفات النقصان ، مثنياً عليه بنعوت الكمال ، طالباً لمزيد الإنعام ، { وكفى به بذنوب عباده خبيراً } أي : كفى الله خبيراً بذنوب عباده ، ما ظهر منها وما بطن ، يعني : أنه خبير بأحوالهم ، كافٍ في جزاء أعمالهم . { الذي خلق السموات والأرضَ وما بينهما في ستة أيام } أي : في مدة مقدارها ستة أيام إذْ لم يكن ليل ولا نهار . وعن مجاهد : أولها يوم الأحد ، وآخرها يوم الجمعة ، وإنما خلقها في هذه المدة ، وهو قادر على خلقها في لحظة ، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت . { ثم استوى على العرش } استواء يليق به ، { الرحمنُ } أي : هو الرحمن ، أو : فاعل استوى ، أي : استوى الرحمن ، برحمانيته على العرش وما احتوى عليه . وراجع ما تقدم في الأعراف { فاسألْ به خبيراً } أي : سل عنه رجلاً عارفاً خبيراً به ، يُخبرك برحمانيته . وكانوا ينكرون اسم الرحمن ، ويقولون : لا نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة ، يعنون : مسيلمة الكذاب ، وكان يقال له : رحمن اليمامة غُلُوًّا فيه ، فأمر نبيه أن يسأل من له خبرة وعلم بالكتب المتقدمة عن اسم الرحمن ، فإنه مذكور في الكتب المتقدمة . قال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن العارف : والظاهر : أن الخبير هو الله ، أي : أسأل الله الخبير بالأشياء ، الأعلم بخفاياها ، والتقدير : فسل بسؤالك إياه خبيراً . وإنما استظهرنا هذا القول لأن المأمور بالسؤال الرسول صلى الله عليه وسلم ، وَتَجِلُّ رتبته عن سؤال غير ربه . والمراد : فسل الله الخبير بالرحمن ووصفه . انظر تمام كلامه . { وإِذا قيل لهم } أي : إذا قال محمد للمشركين : { اسجدوا للرحمن } صَلّوا له ، أو : اخضعوا ، { قالوا وما الرحمنُ } أي : لا نعرف الرحمن فنسجد له ، قالوا ذلك : إما لأنهم ما كانوا يطلقونه على الله تعالى ، أو لأنهم ظنوا أن المراد به غيره تعالى . { أنسجُدُ لما تأمرنا } أي : للذي تأمرنا بالسجود له ، أو لأمرك بالسجود له من غير علم منا به . وهو منهم عناد لأن معناه في اللغة : ذو الرحمة التي لا غاية لها لأن فَعْلاَنَ يدل على المبالغة ، وهم من أهل اللغة . { وزادهم نُفُوراً } أي : زادهم الأمر بالسجود للرحمن تباعداً عن الإيمان ونفوراً عنه . وبالله التوفيق . الإشارة : قد تقدم الكلام على التوكل في مواضع . وللقشيري هنا كلام ، وملخصه باختصار : أن التوكل : تفويضُ الأمر إلى الله سبحانه ، وأصله : عِلْمُ العبدِ بأنَّ الحادثاتِ كلّها حاصِلةٌ من الله ، ولا يقدر أحدٌ على إيجاد شيء أو دفعه ، فإذا عَرَفَ العبدُ هذا ، وعلم أن مراد الله لا يرتفع ولا يدفع ، حصل له التوكل . وهذا القدر فرض ، وهو من شرائط الإيمان ، قال الله تعالى : { وَعَلَى ٱللَّهِ فَتَوَكَّلُوۤاْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } [ المائدة : 23 ] ، وما زاد على هذا القَدْرِ من سكون القلب ، وطمأنينته ، وزوال الانزعاج والاضطراب ، فهو من أحوال التوكل ومقاماته فالناس في الاكتفاء والسكون على أقسام ودرجات ، فأول رتبة فيه : أن يكتفي بما في يده ، ولا يطلب الزيادة عليه ، ويستريح قلبه من طلب الزيادة . وتسمى هذه الحالة : القناعة ، فيقنع بالحاصل ، ولا يستزيد ما ليس بحاصل - يعني : مع وجود الأسباب - ثم بعد هذا سكون القلب في حال عَدَمِ الأسباب ، وهو مقام التجريد ، وهم متباينون في الرتبة : واحد يكتفي بوعده ، لأنه صَدَّقَهَ في ضمانه ، فسكن قلبه عند فقد الأسباب ثقةً منه بوعد ربه ، وقد قيل : إن التوكل : سكون القلب بضمان الربِّ ، ويقال : سكون الجأش في طلب المعاش ، ويقال : الاكتفاء بوعده عند عدم نَقْدِه . وألطف من هذا أن يكتفي بِعلْمِ الله ، فيشتغل بمولاه ، ولا يلتفت إلى إنجاز وعد ولا ضمان ، فيكِلُ أمره إلى الله ، وهذه حالة التسليم . وفوق هذه : التفويض ، وهو أن يَكِلَ أمرَه إليه ، ولا يختار حالاً على حال ، فيشتغل بمولاه ويغيب عن نفسه وعن كل ما سواه ، يعلم أنه مملوكٌ لسيِّده ، والسيَّدُ أولى من العبد بنفسه . فإذا ارتقى عن هذه الحالة وَجَدَ الراحة في المنْع ، ويستعذب ما يستقبله من الرَّدِّ ، فهي رتبة الرضا ، ويحصل له في هذه الحالة ، من فوائد الرضا ومطالعته ، ما لا يحصل لمن دونه من الحلاوة في وجود المقصود . وبعد هذا : الموافقة وهو ألا يجد الراحة في المنع ولا في العطاء ، وإنما يجد حلاوة نسيم القُرب ، وزوائد الأنس بنسيان كل أرَبٍ . فكما أن حلاوة الطاعات تتصاغر عند بَرْدٍ الرضا - ويعدُّون ذلك حجاباً - كذلك أهل الأُنْسِ بالله يَعدُّون الوقوف مع حلاوة الرضا والاشتغال بلطائفه نقصاناً وحجاباً . ثم بعد هذا استيلاءُ سلطان الحقيقة ، بما يأخذ العبد عن جملته بالكلية ، فيُعبر عن هذه الحالة بالخمود ، والاستهلاك ، والوجود ، والاصطلام ، والفناء - وهذا هو عين التوحيد الخاص - فعند ذلك لا أنس ، ولا هيبة ، ولا لذة ، ولا راحة ، ولا وحشة ، ولا آفة . يعني : غيب المقامات بلذاتها وراحتها ، عند تحقق الفناء ، ثم قال : هذا بيان ترتيبهم ، فأمّا ما دون ذلك فالإخبار عن أحوال المتوكلين ، على تباين شرفهم ، يختلف على حسب اختلاف حالهم . انتهى بالمعنى . وقال أيضاً : ويقال : التوكل في الأسباب الدنيوية ينتهي إلى حدّ ، وأما التوكل على الله في إصلاح آخرته : فهو أشدُّ غموضاً وأكثرُ خفاء ، فالواجب ، في الأسباب الدنيوية ، أن يكون السكونُ عند طلبها غالباً ، والحركةُ تكون ضرورةً ، وأما في أمر الآخرةِ وما يتعلق بالطاعةِ ، فالواجبُ البِدار والجدُّ والانكماشُ ، والخروجُ عن أوطان الكسل ، وترك الجنوح إلى الفشل . والذي يوصف بالتواني في العبادات والتباطؤِ في تلافي ما ضيَّعَه من إرضاء الخصوم ، والقيام بحقِّ الواجبات ، ثم يعتقد في نفسه أنه متوكِّلٌ على الله ، فهو متمن معلول الحال ، ممكورٌ مُسْتَدْرَج ، بل يجب أن يبذل جهدَه ، ويستفرغ وسعَه ، ثم بعد ذلك لا يعتمد على طاعته ، ولا يستند إلى سكونه وحركته ، ويتبرأ من حَوْلِه وقوَّتِه ، ثم يُحسن الظنّ بربِّه . ومع حُسْنِ ظنه بِرَبِّه لا ينبغي أن يخلوَ من مخافته ، اللهم إلا أن يَغْلِبَ على قلبه ما يشغله في الحال من كشوفات الحقائق عن الفكرة في العواقب فإن ذلك - إذا حَصَلَ - فالوقت غالبٌ ، وهو أحد ما قيل في قولهم : الوقت سيف . هـ . ثم ذكر أوصاف الرحمن الذي نفر المشركون عن الخضوع له ما يبيّن عظمته وكبريائه ونفوذ قدرته المستوجبة للخضوع والانقياد له رداً على امتناع الكفرة منه فقال : { تَبَارَكَ ٱلَّذِي جَعَلَ … }