Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 83-89)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : حاكياً عن خليله إبراهيم عليه السلام : { ربِّ هبْ لي حُكماً } أي : حكمة ، أو حُكماً بين الناس ، أو نبوة لأن النبي ذو حُكم بين عباد الله . { وألحِقْني بالصالحين } أي : الأنبياء ، الذين صلحوا لحمل أعباء النبوة والرسالة ، وصلحت سرائرهم للحضرة ، ولقد أجابه بقوله : { وإنه في الآخرة لمن الصالحين } . { واجعل لي لسانَ صدقٍ في الآخرين } أي : ثناءً حسناً ، وذكراً جميلاً في الأمم التي تجيء بعدي ، فأُعطي ذلك ، فكل أهل دين يتولونه ويثنون عليه ، ووضَعَ اللسانَ موضعَ القول لأن القول يكون به . أو : واجعلني على طريق قويم ، وحال مُرضي ، يُقتدى بي فيهما ، ويُحمد أثري بعد موتي ، كما قيل : @ مَوْتُ التقِيِّ حَيَاةٌ لا فناء لها قد مات قومٌ وهم في الناس أَحْيَاءُ @@ وقد تحقق له جميع ذلك ، وخصوصاً في هذه الأمة ، حتى أنه مذكور ومقرون في كل صلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : سأل أن يجعله صالحاً ، بحيث إذا أثنى عليه من بعده لم يكن كاذباً . وقيل : سأل الإمامة في التوحيد والدين ، وقد أجيب بقوله : { إِنّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] . { وَاجْعَلْنِي مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ } أي : اجعلني وارثاً من ورثة جنة النعيم ، أي : الباقين فيها ، { واغفرْ لأبي } ، أي : اجعله أهلاً للمغفرة ، بإعطاء الإسلام { إنه كان من الضالين } : الكافرين ، أو : اغفر له على حاله . وكان قبل النهي . { ولا تُخزني يوم يُبعثون } أي : لا تُهنِّي يوم يبعثون . الضمير للعباد لأنه معلوم ، أو : للضالين ، أي : لا تخزني في أبي يوم البعث ، وهذا من جملة الاستغفار لأبيه ، وكان قبل النهي عنه ، أي : لا تُهِنِّي ، { يوم لا ينفعُ مالٌ ولا بنونَ } ، أي : لا ينفع فيه مال ، وإن كان مصروفاً في وجوه البر ، ولا بنون ، وإن كانوا صُلحاء متأهلين للشفاعة ، { إلا من أتى الله بقلبٍ سليمٍ } من الكفر والنفاق فإنه ينفعه ماله المصروف في طاعة الله ، ويشفع فيه بنوه ، إن تأهلوا للشفاعة ، بأن أَدَّبَهُمْ ودرَّجهم إلى اكتساب الكمالات والفضائل . وقال ابنُ المسيَبِ : القلب السليم هو قلب المؤمن فإن قلب الكافر والمنافق مريض قال الله تعالى : { فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] . وقال أبو عثمان : هو القلب الخالي من البدعة ، المطمئن على السنة . وقال الحسن بن الفضل : سليم من آفات المال ، والبنين والله تعالى أعلم . الإشارة : قد استعمل إبراهيم عليه السلام الأدب ، الذي هو عمدة الصوفية ، حيث قدّم الثناء قبل الطلب ، وهو مأخوذ من ترتيب فاتحة الكتاب . وقوله تعالى : { ربِّ هبْ لي حُكماً } : قال القشيري : أي : على نفسي أولاً ، فإن من لا حُكْم له على نَفْسِه لا حُكْمَ له على غيره ، { وألحقني بالصالحين } بالقيام بحقك ، دون الرجوع إلى طلب الاستقلال لنفسي دون حقك . هـ . ومما اصطلحت عليه الصوفية أن الصالحين : من صلحت ظواهرهم ، وتطهرت قلوبهم من الأمراض . وفوقهم الأولياء ، وهم من كُشف عنهم الحجاب ، وأفضوا إلى الشهود والعيان ، وفوقهم درجة النبوة والرسالة ، فقول الخليل { وألحقني بالصالحين } ، وكذلك قال الصدِّيق ، هو تنزل وتواضع ليعرف جلالة قدر الصالحين ، فما بالك بمن فوقهم ! فهو كقول نبينا صلى الله عليه وسلم : " اللهُمَّ أحينِي مِسْكيناً ، وأمِتْنِي مِسْكيناً واحْشُرني في زُمْرة المسَاكين " أي : اجعل المساكين هم قرابتي ، المحدقون بي في المحشر ، فقد عَرَّف صلى الله عليه وسلم بفضيلة المساكين ، وعظَّم جاههم ، بطلبه أن يكونوا في كفالته ، لا أنه في كفالتهم ، وكذلك الخليل والصدِّيق ، عَرَّفا بفضيلة الصالحين من أهل الإسلام ، أو أنهما طلبا اللحوق بهم . وقوله تعالى : { واجعل لي لسانَ صدْقٍ في الآخرين } كل من اخلص وجهه لله ، وتخلصت سريرته مما سوى الله ، وكان إبراهيمياً حنيفياً ، جعل الله له لسان صدق فيمن يأتي بعده ، وحسن الثناء عليه في حياته وبعد مماته ، لقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إن الله يُحب فلاناً فَأَحِبَّهُ ، فَيُحِبُّهُ جبريل ، ثم ينادي جبريل في أهل السموات : إن الله يحب فلاناً فأحِبُّوه ، فيحبُّه أهل السماء ، ثم يُوضَع له القَبُول في الأرض " أو كما قال صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { واغفر لأبي … } إلخ . قال القشيري : هذا عند العلماء : إنما قاله قبل يأسه من إيمانه ، وعن أهل الإشارة : ذكره في وقت غَلَبَةِ البَسْط ، وتجاوز ذلك عنه ، وليس إجابةُ العبد واجبةً عليه في كل شيء ، وأكثر ما فيه : أنه لا يجيبه في ذلك ، ثم لهم أسوة في ذكر أمثال هذا الخطاب ، وهذا لا يهتدي إليه كلُّ أحدٍ . هـ . قال المحشي : وينظر لما قاله العلماء ، وبه الفتوى ، قوله : { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ } [ التوبة : 114 ] ، وينظر للسان الإشارة شفاعته له يوم القيامة ، وتكلمه فيه بقوله : وأيُّ خِزْيٍ أعظم من كون أبي في النار … الحديث ، وكذا قوله : { وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وجاء ذلك من استغراقه في بحر الرحمة ، على سعة العلم ، ومثله استغفار نبينا صلى الله عليه وسلم لابن أُبَيّ ، وصلاته عليه ، وانظر الطيبي في آية : { وَسِعْتَ كُـلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] . هـ . وقوله تعالى : { إلا من أتى الله بقلب سليم } ، أظهر ما قيل في القلب السليم : أنه السالم من الشكوك والأوهام ، والخواطر الردية ، ومن الأمراض القلبية ، ولا يتحقق له هذا إلا بصحبة شيخ كامل ، يُخرجه من الأوصاف البشرية ، إلى الأوصاف الروحانية ، ويحققه بالحضرة القدسية ، وإلا بقي مريضاً ، حتى يلقى الله بقلب سقيم . وفي الإحياء : السعادة منوطة بسلامة القلب من عوارض الدنيا ، والجودُ بالمال من عوارض الدنيا ، فشرط القلب أن يكون سليماً بينهما ، أي : لا يكون ملتفتاً إلى المال ، ولا يكون حريصاً على إمساكه ولا حريصاً على إنفاقه فإن الحريصَ على الإنفاق مصروفُ القلب إلى الإنفاق ، كما أن الحريص على الإمساك مصروف القلب إلى الإمساك . وكان كمال القلب أن يصفو من الوصفين جميعاً . وقال الداراني : القلب السليم هو الذي ليس فيه غير الله تعالى . هـ . وقال الجنيد رضي الله عنه : السليم في اللغة : اللديغ ، فمعناه : كاللديغ من خوف الله تعالى . هـ . وبالله التوفيق . ثم ذكر هول ذلك اليوم ، فقال : { وَأُزْلِفَتِ ٱلْجَنَّةُ … }