Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 26, Ayat: 69-82)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { واتلُ عليهم } أي : على المشركين { نبأَ إبراهيمَ } أي : خبره العظيم الشأن ، ولم يأمر في قصص هذه السورة بتلاوة قِصَّةٍ إلا في هذه تفخيماً لشأنه ، وتعظيماً لأمر التوحيد ، الذي دلت عليه . { إذْ قال } أي : وقت قوله { لأبيه وقومه ما تعبدون } أي : أيُّ شيء تعبدون ؟ وإبراهيم عليه السلام يعلم أنهم عَبَدة الأصنام ، لكنه سألهم ليُعلمهم أن ما يعبدونه لا يستحق العبادة ، { قالوا نعبد أصناماً } ، وجواب { ما تعبدون } : هو قولهم : { أصناماً } لأن السؤال وقع عن المعبود لا عن العبادة ، فكان حق الجواب أن يقولوا : أصناماً ، كقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ ٱلْعَفْوَ } [ البقرة : 219 ] ، وكقوله تعالى : { مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ ٱلْحَقَّ } [ سبأ : 23 ] . لكنهم أطنبوا فيه بإظهار العامل قصداً إلى إبراز ما في نفوسهم الخبيثة من الابتهاج والافتخار بعبادتها ، { فنظلُّ لها عاكفين } أي : فنقيم على عبادتها طول النهار . وإنما قالوا : { فنظل } لأنهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل : أو يراد به الدوام . { قال } إبراهيمُ عليه السلام : { هل يسمعونكم إذ تَدْعون } أي : هل يسمعون دعاءكم حين تدعونهم ، على حذف مضاف ، { أو ينفعونكم } إن عبدتموها ، { أو يَضُرُّونَ } أو يضرونكم إن تركتم عبادتها إذ لا بد للعبادة من جلب نفع أو دفع ضر ؟ { قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون } فاقتدينا بهم . اعترفوا بأن أصنامهم بمعزل عما ذكر من السمع ، والمنفعة ، والمضرة بالمرة . واضطروا إلى إظهار أنهم لا سند لهم سوى التقليد الرديء . { قال } إبراهيم : { أفرأيتم ما كنتم تعبدون } أي : أنظرتم وأبصرتم وتأملتم فعلمتم ما كنتم تعبدون { أنتم وآباؤكم الأقدمون } حق الإبصار ، أو حق العلم ، { فإنهم عدو لي } أي : فاعلموا أنهم أعداء لي ، لا أحبهم ولا يحبونني ، أو : لو عبدتموهم لكانوا أعداء لي يوم القيامة ، كقوله : { سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] ، وقال الفراء : هو من المقلوب ، أي : فإني عدو لهم ، والعدو يجيء بمعنى الواحد والجماعة لأنه فَعُولٌ ، كصبور . وفي قوله : { عدو لي } ، دون " لكم " زيادةُ نصحٍ ، لكونه أدعى لهم إلى القبول ، ولو قال : فإنهم عدو لكم ، لم يكن بتلك المثابة ، ولم يقبلوه ، { إلا ربِّ العالمين } : استثناء منقطع ، أي : لكن رب العالمين ليس كذلك ، بل هو حبيب لي . وأجاز الزَّجَّاجُ أن يكون متصلاً ، على أن الضمير لكل معبود ، وكان من آبائهم من عَبَد الله تعالى ، وهم أيضاً كانوا يعبدون الله مع أصنامهم . ثم وصف الربّ تعالى قوله : { الذي خلقني } بالتكوين في القرار المكين ، { فهو يَهدين } وحده إلى كل ما يُهمني ويُصلحني من أمور الدين والدنيا ، هداية متصلة بحين الخلق ونفخ الروح ، متجددة على الاستمرار ، كما ينبئ عنه صيغة المضارع . وعبَّر بالاستقبال ، مع سبق الهداية في الأزل لأن المراد ما ينشأ عنها ، وهو الاهتداء لما هو الأهم والأفضل والأتم والأكمل ، أو : والذي خلقني لأسباب خدمته فهو يهدين إلى آداب خُلَّتِهِ . ولما كان الخلق لا يمكن أن يدعيه أحد لم يؤكد فيه بهو ، بخلاف الهداية والإطعام والسقي ، فإنه يكون على سبيل المجاز من المخلوقين ، ولذلك أكده بهو ليخصه به تعالى . { والذي هو يُطعمني } لا غيره ، أصناف الإطعام إلى مُولي الإنعام لأن الركون إلى الأسباب عادة الأَنْعام . { و } هو أيضاً الذي { يسقين } أي : يرويني بمائه . وتكرير الموصول في المواضع الثلاثة للإيذان بأن كل واحدة من تلك الصلات نعت جليل له تعالى ، مستقل في استيجاب الحكم . { وإِذا مرضت فهو يَشْفين } : عطف على { يُطعمني ويسقين } ، ونظم معهما في سلك الصلة بموصول واحد لأن الصحة والمرض من متبوعات الأكل والشرب في العادة ، غالباً . وقال في الحاشية : ثم ذكر بعد نعمة الخلق والهداية ما تدوم به الحياة وتستمر ، وهو الغذاء والشراب ، ولمَّا كان ذلك مبنياُ على غلبة إحدى الكيفيات على الآخر ، بزيادة الغذاء أو نقصانه ، فيحدث بعد ذلك مرض ، ذكر نعمته بإزالة ما حدث من السقم . هـ . ونسبة المرض إلى نفسه والشفاء إلى الله تعالى ، مع أنهما منه تعالى لمراعاة حسن الأدب ، كما قال الخضر عليه السلام : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] ، { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا } [ الكهف : 82 ] . { والذي يُميتني ثم يُحيينِ } ، ولم يقل : وإذا مت لأن الإماتة والإحياء من خصائصه تعالى . وأيضاً : الموت والإحياء من كمال الكمال لأنه الخروج من سجن الدنيا إلى السرور والهناء ، أو : الخروج من دار البلاء والفناء إلى دار الهناء والبقاء . { والذي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفَر لي } أي : في مغفرته لي { خطيئتي يومَ الدين } ، ذكره عليه السلام هضماً لنفسه ، وتعليماً للأمة أن يجتنبوا المعاصي ، ويكونوا على حذر منها ، وطلب مغفرته لما يفرط منهم . وقال أبو عثمان : أخرج سؤاله على حد الأدب ، لم يحكم على ربه بالمغفرة ، ولكنه طَمِعَ طَمَعَ العبيد في مواليهم ، وإن لم يكونوا يستحقون عليهم شيئاً إذ العبد لا يستحق على مولاه شيئاً ، وما يأتيه يأتيه من فضل مولاه . هـ . وقيل : أشار إلى قوله : { إِنّيِ سَقِيم } [ الصافات : 89 ] { فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا } [ الأنبياء : 63 ] وقوله في سارّة : " هي أختي " حذراً من الجبار . وفيه نظر لأنها مع كونها معاريض ، لا من قبيل الخطايا المفتقرة إلى الاستغفار إنما صدرت عنه عليه السلام بعد هذه المقالة الجارية بينه وبين قومه في أول أمره . وتعليق مغفرة الخطيئة بيوم الدين ، مع كونها إنما تُغفر في الدنيا لأن أثرها إنما يظهر يومئذٍ ، ولأن في ذلك تهويلاً له ، وإشارة إلى قوع الجزاء فيه ، إن لم يغفر . والله تعالى أعلم . الإشارة : ينبغي لك أيها العبد أن تكون إبراهيمياً حنيفياً ، فتنبذ جميعَ الأرباب ، وتعادي كل من يشغلك عن محبة الحبيب ، من العشائر والأصحاب ، وتقول لمن عكف على متابعة هواه ، ولزم الحرص على جمع دنياه ، هو ومن تقدمه : أفرأيتم ما كنتم تعبدون ، أنتم وآباؤكم الأقدمون ، فإنهم عدو لي إلا رب العالمين ، الذي خلقني لعبوديته ، فهو يهدين إلى معرفته ، والذي هو يطعمني طعم الإيمان واليقين والإحسان ، ويسقيني من شراب خمرة العيان ، وإذا مرضتُ بالذنوب فهو يشفين بالتوبة ، أو : مرضت بشيء من العيوب فهو يشفين بالتطهير منها . أو : إذا مرضت برؤية السِّوى ، فهو يشفين بالغيبة عنه ، والذي أطمع أن يطهرني من البقايا ، ويجعلني من المقربين يوم الدين . وقال ذو النون رضي الله عنه : يطعمني طعام المعرفة ، ويسقيني شرا ب المحبة ، ثم قال : @ شَرَابُ المَحَبَّةِ خَيْرُ الشَّرابْ وكُلُّ شرابٍ سواه سَرَابْ @@ وقال الشيخ أبو يزيد البسطامي رضي الله عنه : إن لله شراباً ، يقال له : شراب المحبة ، ادخره لأفاضل عباده ، فإذا شربوا سكروا ، وإذا سكروا طاشوا ، وإذا طاشوا طاروا وصلوا ، وإذا وصلوا اتصلوا ، فهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر . هـ . قلت : شراب المحبة هو خمرة الفناء والغيبة في الله ، بدليل قول ابن الفارض رضي الله عنه . @ فَلَمْ تهْوَني ما لم تكنْ فِيَّ فانِياً ولمَ تَفْنَ ما لم تجتل فيكَ صورتي @@ وقال الجنيد رضي الله عنه : يُحشر الناس يوم القيامة عراة ، إلا من لبس ثياب التقوى ، وجياعاً إلا من أكل طعام المعرفة ، وعطاشاً إلا من شرب شراب المحبة . هـ . وقد يستغني صاحب طعام المعرفة وشراب المحبة عن الطعام والشراب الحسيين ، كما قال صلى الله عليه وسلم ، حين كان يواصل : " إني أبَيتُ عند ربي يُطعمني ويسقين " . قال أبو الوراق في قوله تعالى : { الذي هو يُطعمني ويسقين } أي : يُطعمني بلا طعام ، ويسقيني بلا شراب . قال : ويدل عليه حديث السَّقَّاء في عهد النبي صلى الله عليه وسلم حيث سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ ثلاثة أيام : { وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها } ، فرمى بِقِرْبَتِهِ ، فأتاه آتٍ في منامه بقدح من شراب الجنة ، فسقاه ، قال أنس : فعاش بعد ذلك نيفاً وعشرين سنة ، ولم يأكل ولم يشرب على شهوة . هـ . وكان عبد الرحمن بن أبي نعيم لا يأكل في الشهر إلا مرة ، فأدخله الحجاج بيتاً ، وأغلق عليه بابه ، ثم فتحه بعد خمسة عشر يوماً ، ولم يشك أنه مات ، فوجده قائماً يُصلي ، فقال : يا فاسق ، تصلي بغير وضوء ؟ فقال : إنما يحتاج الوضوء من يأكل ويشرب ، وأنا على الطهارة التي أدخلتني عليها . هـ . ومكث سفيان الثوري بمكة دهراً ، وكان يَسفُّ من السبت إلى السبت كفاً من الرمل . هـ . وهذا من باب الكرامة ، فلا يجب طردها ، وقد تكون بالرياضة ، وطريق المعرفة لا تتوقف على هذا . والله تعالى أعلم . ثم ذكر دعاء إبراهيم ، فقال : { رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً … }