Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 20-26)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { وتفقَّدَ } سليمانُ { الطيرَ } أي : تعرف أحوال الطير تعرف َالمَلِك لمملكته ، حسبما تقتضيه عناية الملك بمملكته ، والاهتمام بكل جزء منها ، أو : تفقده لمعرفته بالماء ، أو لغير ذلك على ما يأتي . فلما تفقده لم ير الهدهد فيما بينها . والتفقد : طلب ما غاب عنك . { فقال ماليَ لا أرى الهدهد } أساتر ستره ؟ { أم كان من الغائبين } ، و " أم " : بمعنى " بل " . كأنه قال : ما لي لا أراه ؟ ثم بدا له أنه غائب ، فأضرب عنه ، وقال : بل هو من الغائبين . { لأُعذِّبَنَّه عذاباً شديداً } ، قيل : كان عذابه للطير : نتفه ريشه وتشميسه ، أو : يجعله مع أضداده في قفص ، أو : بالتفريق بينه وبين إلفه . وعن بعضهم : أضيق السجون معاشرة الأضداد ، ومفارقة الأحباب . أو : نتفه ، وطرحه بين يدي النحل تلدغه ، أو : النمل تأكله . وحلّ له تعذيب الهدهد لينزجر غيره ، ولِما سخرت له الحيوانات - ولا يتم التسخير إلا بالتأديب - حلّ له التأديب . { أو لأذْبحنَّه } ليعتبر به أبناء جنسه ، { أو لَيَأْتِيَنِّي بسلطانٍ مبين } بحُجة تُبين عذره ، والحلف في الحقيقة على أحد الأمرين ، على تقدير عدم الثالث . قال بعضهم : وسبب طلبته للهدهد ، لإخلاله بالنوبة التي كان ينوبها . وقيل : كانت الطير تظله ، فأصابته لمعة من الشمس ، فنظر ، فرأى موضع الهدهد خالياً ، فتفقده ، وقيل : احتاج إلى الماء ، وكان عِلْمُ ذلك إلى الهدهد ، فتفقده ، فلم يجده ، فتوعده . والسبب فيه : أن سليمان عليه السلام لَمَّا فرغ من بناء بيت المقدس ، عزم على الخروج إلى أرض الحرم ، للحج ، فتجهز للمسير ، وخرج بجنوده - كما تقدم - فبلغ الحرم ، وأقام به ، وكان ينحر كل يوم بمكة خمسة آلاف ناقة ، ويذبح خمسة آلاف ثور ، وعشرين ألف شاة ، قرباناً . وقال : إن هذا مكان يخرج منه نبي عزيزُ ، صفته كذا وكذا ، يُعطَى النصر على جميع من ناوأه ، وتبلغ هيبته مسيرة شهر ، القريب والبعيد في الحق عنده سواء ، لا تأخذه في الله لومة لائم ، دينه دين الحنيفية ، فطوبى لمن أدركه وآمن به ، وبيننا وبين خروجه زهاء ألف عام . ثم قضى نسكه ، وخرج نحو اليمن صباحاً ، يؤم سهيلاً ، فوافى صنعاء وقت الزوال ، وذلك مسيرة شهر ، فرأى أرضاً حسناء ، تزهو خضرتها ، فأحب النزول بها ليصلي ويتغذى ، فطلبوا الماء فلم يجدوه ، وكان الهدهد دليله على الماء ، كان يرى الماء من تحت الأرض ، كما نرى الماء في الزجاجة ، فينقر الأرض فتجيء الشياطين يستخرجونه . وبحث فيه القشيري بأن الهدهد متعدد في عسكره ، إذا فقدوا واحداً بقي آخر ، قال : اللهم إلا أن يكون ذلك الواحد مخصوصاً بمعرفة ذلك ، والله أعلم . هـ . قال سعيد بن جبير : لما ذكر ابن عباس هذا الحديث : قال له نافع بن الأزرق : كيف ينظر الماء تحت الأرض ، ولا يبصر الفخ حتى يقع فيه ؟ قال ابن عباس : ويحك إذا جاء القدر حال دون البصر . هـ . قلت : ونافع هذا هو رأس الخوارج والمعتزلة . فلما نزل سليمانُ ، قال الهدهد : إن سليمان قد اشتغل بالنزول ، فارتفع نحو السماء ، ونظر طول الدنيا وعرضها ، ونظر يميناً وشمالاً ، فرأى بستاناً لبلقيس فيه هدهد . وكان اسم هدهد سليمان " يعفور " واسم هدهد اليمن " عنفير " . فقال هدهد اليمن لهدهد سليمان : من أين أقبلتَ وأين تريد ؟ قال : أقبلتُ من الشام ، مع صاحبي سليمان بن داود ، قال : ومَن سليمان ؟ قال : ملك الجن والإنس والشياطين والطير والوحوش والرياح ، فمِن أين أنت ؟ قال من هذه البلد ، ملكها امرأة ، يقال لها " بلقيس " تحت يديها اثنا عشر ألف قائد ، تحت يد كل قائد مائة ألف مقاتل . فانطلق معه ، ونظر إلى بلقيس ومُلكها ، ورجع إلى سليمان وقت العصر . وكان سليمان قد فقده وقت الصلاة ، فلم يجده ، وكان على غير ماء . قال ابن عباس : فدعا عريف الطير - وهو النسر - فسأله ؟ ، فقال : ما أدري أين هو ، فغضب سليمان وقال : لأُعذبنه … إلخ ، ثم دعا بالعقاب ، سيد الطير ، فقال : عليّ بالهدهد الساعة ، فرفع العقاب نفسه نحو السماء ، حتى التزق بالهواء ، فنظر إلى الدنيا كالقصعة بين يدي أحدكم ، فإذا هو بالهدهد مُقبلاً من نحو اليمن ، فانقضّ نحوه ، فقال له الهدهد : بحق الحق الذي قوّاك إلا ما رحمتني ، فقال : ويلك ، إن نبي الله حلف أن يعذبك ويذبحك . ثم تلقته النسور والطير في العسكر ، وقالوا له : لقد توعدك نبيُّ الله . قال : أوَ ما استثنى ؟ قالت : بلى ، قال : { أوْ لَيأتيني بسلطان مبين } . ثم دخل على سليمان ، فرفع رأسه ، وأرخَى ذنبه وجناحيه يجرهما على الأرض ، تواضعاً لله ولسليمان ، فقال سليمان : أين كنت ؟ لأعذبنَّك … فلما دنا منه أخذ سليمان برأسه ، فمده إليه ، فقال له الهدهد : يا نبي الله اذكر وقوفك بين يدي الله تعالى ، بمنزلة وقوفي بين يديك ، فارتعد سليمان وعفا عنه . وقال عكرمة : إنما صُرف سليمان عن ذبح الهدهد لبره بوالديه ، كان يلتقط الطعام ثم يزقه لهما . قال تعالى : { فَمَكَثَ غيرَ بعيدٍ } أي : تفقد مكث سليمان حين تفقد الهدهد ، وأرسل من ورائه غير زمان بعيد ، وهو من الظهر إلى العصر - كما تقدم - أو : فمكث الهدهد في غيبته غير بعيد ، خوفاً من سليمان ، فالضمير إما لسليمان ، أو : للهدهد ، وهو الظاهر ، ويرجحه قراءة : فتمكث . وفي " مكث " لغتان : الضم والفتح . ولما قدِمَ من غيبته ، أحضر بين يديه ، على الهيئة المتقدمة ، ثم سأله عن غيبته ، { فقال أَحطتُ بما لم تُحِطْ به } أي : أدركت علماً لم تُحط به أنت ، أَلهم الله الهدهدَ فكافح سليمانَ بهذا الكلام ، مع ما أوتي من فضل النبوة والعلوم الجمة ، ابتلاء له عليه السلام في علمه ، وتنبيهاً على أن في أدنى خلقه اضعفهم من أحاطه الله علماً بما لم يُحط به لتتصاغر إليه نفسه ، ويصغر في عينه وعلمه ، في جانب علم الله ، رحمة به ولُطفاً في ترك الإعجاب ، الذي هو فتنة العلماء . ثم قال : { وجئتك من سبأ } - بالصرف - اسماً للحيّ ، أو : للأب الأكبر ، وبعدمه اسماً للقبيلة . { بنبأٍ يقين } ، والنبأ : الخبر الذي له شأن . وقوله : { من سبأ بنبإٍ } من محاسن الكلام ويسمى البديع . وقد حسن وبرع لفظاً ومعنىً ، حيث فسر إبهامه بأبدع تفسير ، وأراه أنه كان بصدد إقامة خدمة مهمة . وعبّر عما جاء به بالنبأ ، الذي هو الخبر الخطير والشأن الكبير ، ووصفه بما وصفه به . { وإني وجدتُ امرأةَ تملكهم } هو استئناف لبيان ما جاء به من النبأ ، وتفسير له إثر الإجمال . وهي بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن ريان . وكان أبوها ملك أرض اليمن كلها ، ورث الملك من أربعين أباً . وقيل : كان أبوها - اسمه الهدهاد - ملكاً عظيم الشأن ، ملك أرض اليمن كلها ، وأبى أن يتزوج منهم ، فزوجوه امرأة من الجن ، يقال لها " ريحانة " فولدت له بلقيس ، ولم يكن له ولد غيرها . قال أبو هريرة : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " كان أحد أبوي بلقيس جنياً " فمات أبوها ، فاختلف قومه فرقتين ، وملّكوا أمرهم رجلاً قائماً بسيرته ، حتى فجَر بحرم رعيته ، فأدركت بلقيس الغيرة ، فعرضت عليه نفسها ، فتزوجته ، فسقته الخمر ، فسكر ، فجزت رأسه ، ونصبته على باب دارها فملكوها . { وأُوتِيَتْ من كل شيءٍ } تحتاج إليه الملوك ، من العدة والآلة ، { ولها عرشٌ عظيم } : كبير ، قيل : كان ثلاثين ذراعاً في ثلاثين عرضاً ، وقيل : كان ثمانين ذراعاً في ثمانين ، وطوله في الهواء : ثمانون . وكان من ذهب وفضة ، مرصعاً بأنواع الجواهر ، وقوائمه من ياقوت أحمر وأخضر ، ودرّ ، وزبرجد ، وعليه سبعة أبيات ، في كل بيت باب مغلق . واستصغر الهدهد حالها إلى حال سليمان ، فلذلك عظّم عرشها . وقد أخفى الله تعالى ذلك على سليمان لحكمة ، كما أخفى مكان يوسف على يعقوب ، ليتحقق ضعف العبودية في جانب علم الربوبية . وكانت بلقيس مجوسية ، فلذلك قال : { وجدتُها وقومَها يسجدون للشمس من دون الله } أي : يعبدونها متجاوزين عبادة الله . { وزيَّن لهم الشيطانُ أعمالهم } التي هي عبادة الشمس ، ونظائرها من أصناف الكفر والمعاصي ، { فصدَّهم عن السبيل } عن سبيل الرشد والصواب ، وهو التوحيد { فهم لا يهتدون } إليه . ولا يَبْعد من الهدهد التهدّي إلى معرفة الله ، ووجوب السجود له ، وحرمة السجود للشمس ، إلهاماً من الله له ، كما ألهمه وغيره من الطيور وسائر الحيوانات والمعارف اللطيفة ، التي لا يكاد العقلاء ، الراجحة العقول ، يهتدون إليها . وهذا من أسرارالربوبية ، التي سرت في الأشياء ، فوحّدَت الله تعالى ، ولهجت بحمده . { ألاَّ يسجدوا } بالتشديد ، أي : فصدّهم عن السبيل لئلا ، فحذف الجار ، أي : لأجل ألا يسجدوا لله . ويجوز أن تكون " لا " مزيدة ، أي : فهم لا يهتدون إلى أن يسجدوا . وقرئ : هلا يسجدون . ومن قرأ بالتخفيف . فالتقدير عنده : ألا يا هؤلاء اسجدوا ، فألاَ للتنبيه ، والمنادي محذوف ، فمن شدّد لم يقف على { يهتدون } ، ومن خفف وقف ثم استأنف : ألا يا هؤلاء اسجدوا { لله الذي يُخرجُ الخَبْءَ } الشيء المخبوء المستور { في السماوات والأرض } ، قال قتادة : خبء السموات : المطر ، وخبء الأرض : النبات . واللفظ أعم من ذلك ، { ويعلم ما يُخفون وما يُعلنون } عطف على " يخرج " ، إشارة إلى أنه تعالى يُخرج ما في العالم الإنساني من الخفايا ، كما يُخرج ما في العالم الكبير من الخبايا . { الله لا إله إلا هو ربُّ العرش العظيم } الذي هو أول الأجرام وأعظمهما . ووصفُ الهدهد عرشَ الله بالعظم تعظيم له بالنسبة إلى سائر ما خلق من السموات والأرض . وفي الخبر : " إن السموات والأرض في جانب العرش كحلقة في فلاة " ووصفه عرش بلقيس تعظيم له بالنسبة إلى عروش أبناء جنسها من الملوك . هذا آخر كلام الهدهد . ثم دلهم على الماء فحفروا وشربوا ، وملؤوا الركايا ، والله تعالى أعلم . الإشارة : هُدهد كل إنسان نفسه ، فإذا تفقدها فوجدها غائبة عن الله ، في أودية الغفلة ، هددها بالعذاب الشديد ، وبذبحها بأنواع المخالفة ، حتى تأتيه بحجة واضحة ، تعذر بها ، فإن لم تأت بحجة عذَّبها وذبحها ، بإدخالها في كل ما تكره ويثقل عليها ، فتمكث غير بعيد ، فتأتيه بالعلوم اللدنية ، والأسرار الربانية ، التي لم يحط بها علماً قبل ذلك ، وتجيئه بالخبر اليقين ، في العلم بالله ، من عين اليقين ، أو حق اليقين ، فتخبره عن أحوال عامة أهل الحجاب ، فتقول : إني وجدت إمرأة تملكهم ، وهي نفسهم الأمارة ، وأوتيت من كل شيء تشتهيه وتهواه ، من غير وازع ولا قامع ، ولها عرش عظيم ، وهو سرير الغفلة والانهماك في حب الدنيا والشهوات . أو : لها تسلط كبير على من ملكته ، وجدتها وقومها يسجدون للسّوى ، ويخضعون للهوى من دون الله ، وزيّن لهم الشيطانُ ذلك ، فصدهم عن طريق الوصول ، فهم لا يهتدون إلى الوصول إلى الحضرة أبداً ما داموا كذلك لأن حضرة ملك الملوك محرمة على من هو لنفسه مملوك . ألا يسجدوا بقلوبهم لله وحده ، فإنه مطلع على خبايا القلوب والأسرار ، وعلى ما يُسرون من الإخلاص ، وما يُعلنون من الأعمال ، التي توجب الاختصاص . وبالله التوفيق . ولما سمع سليمان كلام الهدهد أرسله بكتابه إلى بلقيس ، كما قال تعالى : { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ … }