Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 17-19)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { قالت نملة } : التاء للوحدة ، لا للتأنيث . قال الرضي : تكون التاء للفرق بين المذكر والمؤنث ، وتكون لآحاد الجنس ، كنحلة ونحل ، وثمرة وثمر ، وبطة وبط ، ونملة ونمل ، فيجوز أن تكون النملة مذكراً ، والتاء للوحدة ، وأنث الفعل باعتبار تأنيث اللفظ . هـ . مختصراً . ولا يحطمنكم : يحتمل أن يكون جواباً للأمر ، أو : نهياً بدلاً من الأمر لتقارب المعنى لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده . والضد ينشأ عنه الحطْم ، فلا : ناهية ، ومثله الحديث : " فليُمسك بِنَصَالها ، لا يعقر مسلماً " هـ . يقول الحق جل جلاله : { وحُشِرَ لسليمانَ } أي : جُمع له { جنودُهُ من الجنِ والإِنس والطيرِ } بمباشرة مخاطبيه ، فإنهم رؤساء مملكته ، وعظماء دولته ، من الثقلين وغيرهم . وتقديم الجن على الإنس للإيذان بكمال قوة ملكه وعزة سلطانه لأن الجن طائفة عاتية ، وقبيلة طاغية ، ماردة ، بعيدة من الحشر والتسخير ، { فهم يُوزَعون } أي : يحبس أوائلهم على أواخرهم ، أي : يوقف سلاف العسكر حتى يلحقهم الثواني ، فيكونوا مجتمعين ، لا يختلف منهم أحد ، وذلك لكثرة العظمة والقهرية . قال قتادة : فكان لكل صنف منهم وزعة . أو : لترتيب الصفوف ، كما هو المعتاد في العساكر . والوزع : المنع ، ومنه قول الحسن البصري ، حين ولي القضاء : لا بد للحاكم من وزعة أي : شُرط يمنعون الناس من الظلم . وتخصيص حبس أوائلهم بالذكر دون سوق أواخرهم مع أن التلاحق يحصل بذلك أيضاً : لأن أواخرهم غير قادرين على ما يقدر عليه أوائلهم من السير السريع ، وهذا إن لم يكن سيرهم بتسيير الريح في الجو . قال محمد بن كعب : كان عسكر سليمان مائة فرسخ ، خمسة وعشرون للجن ، وخمسة وعشرون للإنس ، وخمسة وعشرون للطير ، وخمسة وعشرون للوحش . وكان له ألف بيت من قوارير على الخشب ، فيها ثلاثمائة منكوحة ، وسبعمائة سرية . وقد نسجت له الجن بساطاً من ذهب وإبريسم ، فرسخاً في فرسخ ، وكان يوضع منبره في وسطه ، وهو من ذهب ، فيقعد عليه ، وحوله ستمائة ألف كرسي من ذهب وفضة ، فتقعد الأنبياء - عليهم السلام - على كراسي الذهب ، والعلماء على كراسي الفضة ، وحولهم الناس ، وحول الناس الجن والشياطين ، وتظله الطير بأجنحتها ، حتى لا تقع عليه الشمس ، وترفع ريح الصبا البساط ، فتسير به مسيرة شهر ، من الصباح إلى الرواح . ورُوي أنه كان يأمر الريح العاصف تحمله ، ويأمر الرخاء تُسيِّره ، فأوحى الله تعالى إليه ، وهو يسير بين السماء والأرض : إني زدت في ملكك أنه لا يتكلم أحد بشيء إلا ألقته الريح في سمعك . قال وهب : حدثني أبي : أن سليمان مرّ بحرّاثٍ ، فقال : لقد أُوتي آلَ داود مُلكاً عظيماً ، فالتفت ونزل إلى الحرّاث ، فقال : إني سمعت قولك ، وإنما مشيت إليك لئلا تتمنى ما لا تقدر عليه ، لتسبيحة واحدة يقبلها الله منك خير لك مما أوتي آلُ داود . هـ . { حتى إذا أتوا على وادِ النمل } أي : فساروا حتى بلغوا وداي النمل ، وهو واد بالشام ، كثير النمل ، قاله مقاتل . أو : بالطائف ، قاله كعب . وقيل : هو واد يسكنه الجن ، والنمل مراكبهم . وعدي الفعل بـ " على " لأن إتيانهم كان من فوق ، فأتى بحرف الاستعلاء . ولعلهم أرادوا أن ينزلوا بأعلى الوادي إذ حينئذٍ يخافهم من في الأرض ، لا عند سيرهم في الهواء . وجواب إذ قوله : { قالت نملة } ، وكأنها لما رأتهم متوجهين إلى الوادي فرّت منهم ، فصاحت صيحة ، فنبهت بها ما بحضرتها من النمل . قال كعب : مرّ سليمان عليه السلام بوادي السدير ، من أودية الطائف ، فأتى على واد النمل ، فقالت نملة ، وهي تمشي ، وكانت عرجاء تتكاوس ، مثل الذئب في العِظَم . قال الضحاك : كان اسم تلك النملة طاحية ، وقيل : منذرة ، وقيل : جرمي . وقال نوف الحميري : كان نمل وادي سليمان أمثال الذباب . وعن قتادة : أنه دخل الكوفة ، فالتف عليه الناس ، فقال : سلوني عما شئتم ، فسأله أبو حنيفة ، وهو شاب ، عن نملة سليمان ، أكان ذكراً أو أنثى ؟ فأفحم ، فقال أبو حنيفة : كانت أنثى ، فقيل له : بم عرفت ؟ فقال : قوله تعالى : { قالت نملة } ولو كان ذكراً لقال : قال نملة . هـ . قلت : وهو غير صحيح لِمَا تقدم عن الرضي . { قالت نملةٌ يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم } لم يقل : ادخلن لأنه لَمَّا جعلها قائلة ، والنمل مقولاً لهم ، كما يكون من العقلاء ، أجرى خطابهن مجرى ذوي العقل ، { لا يَحْطِمَنَّكُمْ } لا يكسرنّكم . والحطم : الكسر ، وهو في الظاهر نهى لسليمان عن الحطم ، وفي الحقيقة نهى لهم عن البروز والوقوف على طريقه ، نحو : لا أرينك ها هنا ، أي : لا تتعرضوا فيكسرنكم { سليمانُ وجنودُه } ، وقيل : أراد : لا يحطمنكم جنود سليمان ، فجاء بما هو أبلغ . { وهم لا يشعرون } لا يعلمون بمكانكم ، أي : لو شعروا ما فعلوا . قالت ذلك على وجه العذر ، واصفةً سليمان وجنوده بالعدل ، فحمل الريح قولها إلى سليمان على ثلاثة أميال . رُوي أن سليمان قال لها : لم حذرت النمل ، أَخفتِ ظلمي ؟ أما عَلِمتِ أني نبي عدل ، فلِمَ قُلتِ : { لا يحطمنكم سليمان وجنوده } ؟ فقالت : أما سمعتَ قولي : { وهم لا يشعرون } ، مع أني لم أُرد حَطْم النفوس ، وإنما أردت حطم القلوب ، خشيتُ أن يتمنينَّ ما أُعطيتَ ، ويشغلن بالنظر إليك عن التسبيح ، فقال لها سليمان : عظيني ، فقالت : هل علمتِ لِمَ سُمي أبوك داود ؟ قال : لا ، قالت : لأنه داوى جرحَه . هل تدري لِمَ سميت سليمان ؟ قال : لا ، قالت : لأنك سليم ، ما ركنت إلى ما أوتيت ، لسلامة صدرك ، وأنَى لك أن تلحق أباك . ثم قالت : اتدري لِمَ سخر الله لك الريح ؟ قال : لا ، قالت : أخبرك الله أن الدنيا كلها ريح . قال ابن عباس : ومن هنا " نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربعة من الدواب : الهدهد ، والصُّرد ، والنحلة ، والنملة " . { فتبسم ضاحكاً } ، معجباً { من قولها } ومِن حَذَرِها ، واهتدائها لمصالحها ، ونُصحها للنمل ، وفرحاً بظهور عدله . والتبسم : ابتداء الضحك ، وأكثر الضحك الأنبياء التبسّم ، أي : فتبسم ابتداء ، ضاحكاً انتهاء . { وقال ربِّ أوزعني } ، الإيزاع في الأصل : الكف ، أي : كُفَّني عن كل شيء إلا عن شكر نعمتك ، ويطلق على الإلهام ، أي : ألهمني { أن أشكرَ نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من النبوة والمُلك والعلم ، { وعلى والديَّ } لأن الإنعام على الوالدين إنعام على الولد ، { و } ألهمني { أن أعمل صالحاً ترضاه } في بقية عمري ، { وأدخِلْني برحمتك } أي : وأدخلني الجنة برحمتك ، لا بصالح عملي إذ لا يدخل الجنة إلا برحمتك كما في الحديث . { في عبادك الصالحين } أي : في جملة أنبيائك المرسلين ، الذين صلحوا لحضرتك . أو : مع عبادك الصالحين . رُوي أن النملة أحست بصوت الجنود ، ولم تعلم أنهم في الهواء فأمر سليمان عليه السلام الريح ، فوقفت لئلا يذعرن ، حتى دخلن مساكنهن ، ثم دعا بالدعوة . قاله النسفي . الإشارة : من أقبل بكليته على مولاه ، وأطاعه في كل شيء ، سخرت له الأكوان ، وأطاعته في كل شيء . ومن أعرض عن مولاه أعرض عنه كلُّ شيء ، وصعب عليه كلُّ شيء . " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدته كانت الأكوانُ معك " . فإذا سخرت له الأشياء ، وزهد فيها ، وأعرض عنها ، واختار مقام العبودية ، ارتفع قدره ، ولم ينقص منه شيئاً ، كحال نبينا - عليه السلام - . ومن سخرت له الأشياء ، ونظر إليها ، انتقص قدره ، وإن كان كريماً على الله ، ولذلك ورد في الخبر أن سليمان عليه السلام : هو آخر من يدخل الجنة من الأنبياء . ذكره في القوت . وذكر فيه أيضاً : أن سليمان عليه السلام لَبِسَ ذات يوماً ثياباً رفيعة ، ثم ركب على سريره ، فحملته الريح ، وسارت به ، فنظر إلى عطفيه نظرة ، فأنزلته إلى الأرض ، فقال لها : لِمَ أنزلتني ولَمْ آمرك ؟ فقالت له : نطعيك إذا أطعت الله ، ونعصيك إذا عصيته . فاستغفر وتاب ، فحملته . وهذا مما يعتب علىالمقربين لِكِبر مقامهم ، فكل نعيم في الدنيا ينقص في الآخرة . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى : { وَتَفَقَّدَ ٱلطَّيْرَ فَقَالَ مَالِيَ … }