Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 27, Ayat: 35-37)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : في حكاية بلقيس - وكانت سيسة ، قد سيست وساست ، فقالت لقومها : { وإني مُرْسِلَةً إِليهم } سليمان وقومه ، { بهديةٍ } أُصانعه بذلك عن ملكي ، وأختبره ، أملك هو أم نبي ؟ { فناظرة } فمنتظرة { بمَ يرجعُ المرسلون } بأي شيء يرجعون ، بقبولها أم بردها لأنها عرفت عادة الملوك ، وحسن موقع الهدايا عندهم ، فإن كان مَلِكاً قَبِلَها وانصرف . وإن كان نبياً ردها ولم يَقبل منا إلا أن نتبعه على دينه ، فبعثت خمسمائة غلام ، عليهم ثياب الجواري وحُليهنِ ، راكبين خيلاً ، مغشاة بالديباج ، محلاة اللجم والسروج بالذهب المرصع بالجوهر ، وخمسمائة جارية على رِمَاك في زي الغلمان ، وألف لبنة من ذهب وفضة ، وتاجاً مكللاً بالدر والياقوت ، وحُقاً فيه دُرة عذراء ، وخرزة جزعية مثقوبة ، معوجّة الثقب ، وأرسلت رسلاً ، وأمّرت عليهم المنذر بن عمرو وكتبت كتاباً فيه نسخة الهدية . وقالت فيه : إذ كنتَ نبياً فميّز بين الوصفاء و الوصائف ، وأخْبِر بما في الحُقّ ، واثقب الدرّة ثقباً مستوياً ، واسلك في الخرزة خيطاً . ثم قالت للمنذر : إن نظر إليك نظر غضب فهو ملك ، فلا يهولنك منظره ، وإن رأيته ليناً لطيفاً فهو نبيّ . فأقبل الهدهد ، فأخبر سليمان الخبر كله ، فأمر سليمانُ الجن فضربوا لبِنَات الذهب والفضة ، وفرشوها في الميدان بين يديه طوله سبعة فراسخ ، وجعلوا حول الميدان حائطاً ، شرفه من الذهب والفضة ، وأمر بأحسن الدواب في البر والبحر ، فربطوها عن يمين الميدان و يساره ، على اللبنات . وأمر بأولاد الجن - وهم خلقٌ كثير - فأُقيموا عن اليمين واليسار ، ثم قعد على سريره ، والكراسي من جانبيه ، واصطفت الشياطين صفوفاً فراسخ ، والإنس صفوفاً فراسخ ، والوحش والسباع والطيور والهوام كذلك فلما دنا القوم ، ونظروا ، بُهتوا ، ورأوا الدواب تروث على اللبن ، فتقاصرت إليهم أنفسهم ، ورموا بما معهم من الهدايا . ولما وقفوا بين يديه ، نظر إليهم سليمان بوجهٍ طَلْقٍ ، فأعطوه كتاب الملكة ، فنظر فيه ، فقال : أين الحُق ؟ فأتى به ، فحرّكه ، وأخبره جبريل عليه السلام بما فيه . فقال لهم : إن كان فيه كذا وكذا . ثم أمر بالأرضَة فأخذت شعرة ، ونفذت في الدرّة ، فجعل رزقها في الشجر . وأخذت دودة بيضاء الخيط بفيها ونفذت في ثقب الجزعة فجعل رزقها في الفواكه . ودعا بالماء ، وأمرهم أن يغسلوا وجوههم وأيديهم ، فكانت الجارية تأخذ الماء بيدها فتجعله في الأخرى ، ثم تضرب به وجهها ، والغلام كما يأخذ الماء يضرب به وجهه فيميزهم بذلك . ثم ردّ الهدية . ذلك قوله تعالى : { فلما جاء سليمانَ } أي : جاء رسولها المنذرُ بن عمرو إليه { قال أتمدُّونَنِ بمالٍ } ، توبيخ وإنكار لإمدادهم إياه بالمال ، مع علو شأنه وسعة سلطانه . والتنكير للتحقير ، والخطاب للرسول ومن معه ، أو للرسول والمرسل تغليب للحاضر . { فما آتانيَ الله } من النبوة والمُلك الذي لا غاية وراءه { خير مما آتاكم } أي : من المال الذي من جملته ما جئتم به ، فلا حاجة لي إلى هديتكم ، ولا وقْعَ لها عندي ، ولعله عليه السلام إنما قال لهم هذه المقالة . … إلخ بعد ما جرى بينه وبينهم ما حكي من قصة الحُقّ وغيرها ، لا أنه عليه السلام خاطبهم بها أول ما جاؤوه . ثم قال لهم : { بل أنتم بهديتِكم تفرحون } . الهدية : اسم للمُهدَى ، كما أن العطية اسم للمُعطَى ، فتضاف إلى المُهْدِي والمهدَى له . والمعنى : أن ما عندي خير مما عندكم ، وذلك أن الله تعالى آتاني الدين والمعرفة به ، التي هي الغنى الأكبر ، والحظ الأوفر ، وأتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه ، فكيف يرضى مثلي بأن يُمد بمال من قِبلكم ؟ بل أنتم قوم لا تعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا ، فلذلك تفرحون بما تزدادون ويُهدى إليكم لأنَّ ذلك مبلغ همتكم ، وحالي خلاف ذلكم ، فلا أرضى منكم بشيء ، ولا أفرح إلا بالإيمان منكم ، وترك ما أنتم عليه من المجوسية . والإضراب راجع إلى معنى ما تقدم ، كأنه قيل : أنا لا أفرح بما تمدونني به بل أنتم . ثم قال للرسول : { ارجعْ إليهم } إلى بلقيس وقومها ، وقل لهم : { فلَنَأْتينَّهم بجنودٍ لا قِبَلَ } : لا طاقة { لهم بها } . وحقيقة القِبَل : المقابلة والمقاومة ، أي : لا يقدرون أن يقابلوهم ، { ولنُخْرجنّهم منها } أي : من سبأ { أذلةً وهم صاغرون } : أسارى مهانون . فالذل : أن يذهب عنهم ما كانوا فيه من العز والملك ، والصغار : أن يبقوا في أسر واستعباد . فلما رجع إليها رسولها بالهدايا ، وقصّ عليها القصة ، قالت : هو نبي ، وما لنا به طاقة . ثم تجهزت للقائه ، على ما يأتي إن شاء الله . الإشارة : إذا توجه المريد إلى مولاه ، توجهت إليه نفسه بأجنادها ، وهي الدنيا ، والجاه ، والرئاسة ، والحظوظ ، والشهوات ، فتُمده أولاً بمالٍ وجاه ، تختبره ، فإن علت همته ، وقويت عزيمته ، أعرض عن ذلك وأنكره ، وقال : أتمدونني بمال حقير ، وجاهٍ صغير ، فلما آتاني الله من معرفته والغنى به خير مما آتاكم . ثم يقول للوارد بذلك : ارجع إليهم - أي : للنفس وجنودها - فلنأتينهم بجنود من الأنوار لا قِبَل لهم بها ، ولنخرجنهم منها - أي : قرية القلب - أذلة وهم صاغرون . والله تعالى أعلم بأسرار كتابه . ثم ذكر إيتان عرشها قبل إيتانها ، فقال : { قَالَ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ … }