Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 27, Ayat: 38-44)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

ولما أرادت بلقيس الخروج إلى سليمان ، جعلت عرشها آخر سبعة أبيات ، وغلّقت الأبواب ، وجعلت عليه حُراساً يحفظونه ، وبعثت إلى سليمان : إني قادمة إليك لأنظر ما الذي تدعو إليه ، وشَخَصَتْ إليه في اثني عشر ألف قَيْل ، تحت كل قيل ألوفٌ ، فلما بلغت على رأس فرسخ من سليمان ، { قال يا أيها الملأُ أيُّكم يأتيني بعرشها قبل أن يأتوني مسلمين } ، أراد أن يريها بذلك بعض ما خصه الله تعالى به ، من إجراء العجائب على يده ، مع إطلاعها على عظيم قدرة الله تعالى ، وعلى ما يشهد لنبوة سليمان . أو : أراد أن يأخذه قبل أن تتحصن بالإسلام ، فلا يحل له ، والأول أليق بمنصب النبوة ، أو : أراد أن يختبرها في عقلها ، بتغييره ، هل تعرفه أو تُنكره . { فال عِفْريتٌ من الجن } ، وهو المارد الخبيث ، واسمه " ذكوان " ، أو : " صَخْر " : { أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك } أي : من مجلسك إلى الحكومة ، وكان يجلس إلى تُسع النهار ، وقيل : إلى نصفه . { وإني عليه } على حمله { لقويُّ أمين } ، آتي به على ما هو عليه ، لا أغير منه شيئاً ولا أُبدله ، فقال سليمان عليه السلام ، أريد أعجل من هذا ، { قال الذي عنده علم من الكتاب } . قيل هو : آصف بن برخيا - وزير سليمان عليه السلام ، كان عنده اسمُ الله الأعظم ، الذي إذا سئل به أجاب . قيل هو : يا حيّ يا قيوم ، أو : يا ذا الجلال والإكرام ، أو : يا إلهنا وإله كل شيء ، إلهاً واحداً ، لا إله إلا أنت . وليس الشأن معرفة الاسم ، إنما الشأن أن يكون عين الاسم ، أي : عين مسمى الاسم ، حتى يكون أمره بأمر الله . وقيل : هو الخضر ، أو : جبريل ، أو : ملك بيده كتاب المقادير ، أرسل تعالى عند قول العفريت . والأول أشهر . قال : { أنا آتيك به قبل أن يرتدَّ إليك طَرْفُك } أي : ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن ترده تُبصر العرش بين يديك . رُوي : أن آصف قال لسليمان : مُدّ عينيك حتى ينتهي طرفك ، فمدّ عينيه ، فنظر نحو اليمن ، فدعا آصف ، فغار العرش في مكانه ، ثم نبع عند مجلس سليمان ، بقدرة الله تعالى ، قبل أن يرجع إليه طرفه . { فما رآه } أي : العرش { مستقراً عنده } ثابتاً لديه غير مضطرب ، { قال هذا } أي : حصول مرادي ، وهو حضور العرش في مدة قليلة ، { من فضل ربي } عليّ ، وإحسانه إليّ ، بلا استحقاق مني ، بل هو فضل خالٍ من العوض ، { ليبلُوني } : ليختبرني { أأشكرُ } نعمَه { أم أكفرُ ومن شكَر فإنما يشكر لنفسه } لأنه يقيد به محصولها ، ويستجلب به مفقودها ، ويحط عن ذمته عناء الواجب ، ويتخلص من وصمة الكفران . { ومن كَفَرَ فإِن ربي غنيٌّ كريم } أي : ومن كفر بترك الشكر ، فإن ربي غني عن شكره ، كريم بترك تعجيل العقوبة إليه . وفي الخبر : " من شكر النعم فقد قيّدها بعقالها ، ومن لم يشكر فقد تعرض لزوالها " . وقال الواسطي : ما كان مِنَّا من الشكر فهو لنا ، وما كان منه من النعمة فهو إلينا ، وله المنة والفضل علينا . هـ . { قال } سليمانُ عليه السلام لأصحابه : { نكِّروا لها عرشها } أي : غيّروا هيئته بوجه من الوجوه ، { ننظر أتَهْتَدِي } لمعرفته ، أو : للجواب الصواب إذا سُئلت عنه ، { أم تكون من الذين لا يهتدون } إلى معرفة عرشها . أو إلى الجواب الصواب . { فلما جاءتْ } بلقيسُ سليمانَ عليه السلام ، وقد كان العرش بين يديه ، { قيل } من جهة سليمان ، أو بواسطة : { أهكذا عرشُكِ } ؟ ولم يقل : أهذا عرشك لئلا يكون تلقيناً ، فيفوت ما هو المقصود من اختبار عقلها ، وقد قيل لسليمان - لما أراد تزوجها - : إن في عقلها شيئاً ، فاختبرها بذلك . { قالت } - لما رأته - : { كأنه هو } فأجابت أحسن جواب ، فلم تقل : هو هو ، ولا : ليس به ، وذلك من رجاحة عقلها ، حيث لم تقل : هو هو مع علمها بحقيقة الحال ، ولِمَا شبّهوا عليها بقولهم : أهكذا عرشك شبهت عليهم بقولها : { كأنه هو } مع أنها علمت بعرشها حقيقة ، تلويحاً بما اعتراه بالتنكير من نوع مغايرة في الصفات مع اتحاد الذات ، ومراعاة لحسن الأدب في محاورته عليه السلام . ولو قالوا : أهذا عرشك ؟ لقالت : هو . ثم قالت : { وأُوتينا العلم } بقدرة الله تعالى ، وبصحبة نبوتك { مِن قَبْلِها } من قَبل هذا الأمر ، أي : من قبل المعجزة التي شاهدنا الآن ، من أمر الهدهد ، وبما سمعناه من المنذر من الآيات الدالة على ذلك ، { وكُنا مسلمين } منقادين لك من ذلك الوقت ، وكأنها ظنت أنه أراد عليه السلام اختبار عقلها ، وإظهار المعجزة ، لتؤمن به . فأظهرت أنها آمنت به قبل وصولها إليه . أو قال سليمان : { وأُوتينا العلم } بالله تعالى وبكمال قدرته من قبل هذه الآية ، { وكنا مسلمين } موحدين ، أو : { وأُوتينا العلم } بإسلامها ومجيئها طائعةً { من قبل } مجيئها ، { وكنا مسلمين } موحّدين . { وصدّها ما كانت تعبدُ من دون الله } ، هو من كلام سليمان ، أي : وصدها عن العلم بما علمناه - أو : عن التقدم إلى الإسلام - عبادةُ الشمس وإقامتها بين ظهرانيِّ الكفرة ، أو : من كلام تعالى ، بياناً لما كان يمنعها من إظهار ما ادعته من الإسلام الآن ، أي : صدَّها عن ذلك عبادتُها القديمة للشمس ، { إنها كانت من قوم كافرين } أي : كانت من قوم راسخين في الكفر ، ولذلك لم تكن قادرة على إظهار إسلامها ، وهو بين ظهرانيهم ، حتى دخلت تحت ملكة سليمان عليه السلام ، أو : وصدها الله تعالى ، أو : سليمان ، عما كانت تعبد من دون الله ، فحذف الجار وأوصل الفعل . { قيل لها ادْخلي الصَّرْحَ } أي : القصر ، أو : صحن الدار ، { فما رأته حسِبَتْهُ لُجَّةً } : ماء عظيماً ، { وكشفتْ عن ساقيها } . رُوي أن سليمان عليه السلام أمر قبل قدومها ، فبُني له على طريقها قصر من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه السمك وغيره ، ووضع سريره في صدره ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجن والإنس . وإنما فعل ليزيدها استعظاماً لأمره ، وتحقيقاً لنبوته . وقيل : إن الجن كرهوا أن يتزوجها ، فنفضي إليه بأسرارهم لأنها كانت بنت جنّية . وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد ، فيجتمع له فطنة الجن والإنس ، فيخرجون من مُلْكِ سليمان إلى مُلْكِ أشدّ منه ، فقالوا له : إن في عقلها شيئاً ، وهي شَعْراء الساقين ، ورِجْلها كحافر الحمار ، فاحتبر عقلها بتنكير العرش ، واتخذ الصرح ليتعرف ساقيها ورِجلها فكشفت عنهما ، فإذا هي أحسن الناس ساقاً وقدماً ، إلا أنه شعراء وصرف يصره . ثم { قال } لها { إنه صرح مُمَرد } مملس مستو . ومنه : الأمرد ، للذي لا شعر في وجهه ، { من قواريرَ } من الزجاج ، وأراد سليمان تزوجها ، فكره شعرها ، فعملت له الشياطين النورة ، فنكحها سليمان ، وأحبها ، وأقرها على ملكها ، وكان يزورُها في الشهر مرة ، فيقيم عندها ثلاثة ايام وولدت له ، وانقضى ملكها بانقضاء ملك سليمان عليه السلام ، فسبحان من لا انقضاء لملكه . رُوي أنه مُلِك وهو ابن ثلاث عشرة سنة ، ومات وهو ابن ثلاث وخمسين سنة . هـ . ثم ذكر إسلامها ، فقال : { قالت ربي إني ظلمتُ نفسي } بعبادة الشمس ، { وأسلمتُ مع سُليمانَ } تابعة له ، مقتدية به ، { لله ربِّ العالمين } . وفيه الالتفات إلى الاسم الجليل ، ووصفه بربوبيته للعالمين لإظهار معرفتها بألوهيته تعالى ، وتفرده باستحاق العبادة ، وربوبيته لجميع الموجودين ، التي من جملتها : ما كانت تعبد قبل ذلك من الشمس . والله تعالى أعلم . الإشارة : عرش النفس الذي تستقر عليه هو الدنيا ، فمن أحب الدنيا وركن إلى أهلها ، فقد أجلس نفسه على عرشها ، وصيَّرها مالكه له ، متصرفة فيه بما تُحب ، ومن أبغض الدنيا وزهد في أهلها ، فقد هدم لها عرشها ، وصارت خادمة مملوكة له ، يتصرف فيها كيف يشاء . فيقول الداعي إلى الله - وهو من أهَّله الله للتربية - للمريدين : أيكم يأتيني بعرشها ، ويَخرج عنها لله في أول بدايته ؟ فمنهم من يأتي بها بعد مدة ، ومنهم من يأتي بها أسرع من طرفة ، على قدر القوة والعزم والصدق في الطلب ، ومن أتى بعرش نفسه ، وخرج عنها لله ، فهو الذي آتاه الله علماً من الكتاب ، وعرف مدلوله ومقصوده ، لكن من السياسة أن يتدرج المريدُ في تركها شيئاً فشيئاً ، حتى يخرج عنها ، أو يغيب عن شغلها بالكلية ، وإن كانت بيده . فاما خرجوا عن عرش نفوسهم لله ، وتوجهوا إليه ، ورأى ذلك منهم ، قال : هذا من فضل ربي ، حيث وقعت الهداية على يدي ، ليبلوني أشكر أم أكفر … الآية . قال نكروا لها عرشها ، أي : اعرضوا عليها الدنيا ، وأرُوها عرشها التي كانت عليه ، متغيراً عن حاله الأولى - لأنه كان معشوقاً لها ، والآن صار ممقوتاً ، لغناها بالله - ننظر أتهتدي إليه ، وترجع إلى محبته ، فيكون علامة على عدم وصولها ، أم تكون من الذين لا يهتدون إليه أبداً ، فتكون قد تمكنت من الأنس بالله ، فلما جاءت وأظهر لها عرشها اختباراً ، قيل : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو ، وأوتينا العلم بالله من قبل هذه الساعة ، وكنا منقادين لمراده ، فلن نرجع إلى ما خرجنا عنه لله أبداً . وصدّها عن الحضرة ما كانت تبعد من الهوى ، من دون محبة الله ، إنها كانت من قوم كافرين ، منكرين للحضرة ، غير عارفين بها . قيل لها حين رحلت عن عرشها : ادخلي دار الحضرة ، فلما رأت بحر الوحدة يتموج بتيار الصفات دهشت وحسبته لُجةً يغرق صاحبه في بحر الزندقة ، قال لها رئيس البحرية - وهو شيخ التربية : إنه بحر منزه متصل ، لا أول له ، ولا آخر له . ليس مثله شيء ، ولا معه شيء ، محيط بكل شيء ، وماحٍ لكل شيء . ثم اعترفت أنها ظالمة لنفسها ، مشغولة بهواها ، قبل أن تعرف هواه ، فلما عرفته غابت عن غيره ، واستسلمت وانقادت له . والله تعالى أعلم . ثم ذكر قصة صالح عليه السلام ، فقال : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ … }