Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 14-17)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { على حين غَفْلَةٍ } : حال ، أي : دخل مخفياً . يقول الحق جل جلاله : { ولما بَلَغَ } موسى { أَشُدَّهُ } أي : نهاية القوم وتمام العقل ، جمع شِدَّةٍ كنعمة وأنعم . وأول ما قيل في الأشد : بلوغ النكاح ، وذلك أولُه ، وأقصاه : أربع وثلاثون سنة . { واستوى } أي : اعتدل عقله وقوته ، وهو أربعون سنة ، ويُروى أنه لم يبعث نبي إلى على رأس أربعين سنة . { آتيناهُ حُكْماً } : نبوة ، أو حكمة { وعلماً } : فقهاً في الدين ، أو : علماً بمصالح الدارين . والحاصل : لما تكامل عقله وبصيرته آتيناهُ حُكْماً على عبادنا وعلماً بنا . { وكذلك نجزي المحسنين } أي : كما فعلنا بموسى وأمه لمّا استسلمت لأمر الله ، وألقت ولدها في البحر ، وصدقت بوعد الله ، فرددنا لها ولدها ، ووهبنا له الحكمة والنبوة ، فكذلك نجزي المحسنين في كل أوان وحين . قال الزجاج : جعل الله تعالى إيتاء العلم والحكمة مجازاة على الإحسان لأنهما يؤديان إلى الجنة ، التي هي جزاء المحسنين ، والعالم الحكيم من يعمل بعلمه لأنه تعالى قال : { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ البقرة : 102 ] ، فجعلهم جهالاً ، إذ لم يعملوا بالعلم . هـ . { ودخل المدينةَ } أي : مصر ، آتياً من قصر ، فرعون ، وكان خارجاً ، وقال السُّدِّي : مدينة منف من أرض مصر ، وقال مقاتل : قرية " حابين " ، على فرسخين من مصر . { على حين غفلةٍ من أهلها } ، وهو مابين العشاءين ، أو : وقت القائلة ، يعني : انتصاف النهار . قال السدي : لما كبر موسى ركب مراكب فرعون ، ولبس ملابسَهُ ، فكان يدعى موسى بن فرعون ، فركب فرعونُ يوماً وركب موسى خلفه ، فأدركه المقيل بقرب مدينة منف ، فدخلها نصف النهار ، وقد غلقت أسواقها ، وليس في طرقها أحد ، فوجد موسى رجلين … إلخ . قال ابن إسحاق : كان يجتمع إلى موسى طائفة من بني إسرائيل ويقتدون به ، فرأى مفارقة فرعون ، وتكلم في ذلك حتى ظهر أمره ، فأخافوه ، فكان لايدخل قرية إلا مستخفياً ، فدخلها على حين غفلة . وقيل : إن موسى لما شبّ علا فرعون بالعصى ، فقال : هذا عدو لي ، فأخرجه من مصر ، ولم يدخل عليهم إلى أن كبر وبلغ أشده ، فدخل المدينة على حين غفلة من أهلها بخبر موسى ، أي : من بعد نسيانهم خبره ، { فوجد فيها رجلين يقتتلان } يتضاربان ، { هذا من شيعته } ممن على دينه من بني إسرائيل ، وقيل : هو السامري . وشيعة الرجل : أتباعه وأنصاره ، { وهذا من عدوه } من مخالفيه من القبط ، وهو طباخ فرعون . واسمه : " فليثور " ، وقيل فيهما : " هذا وهذا " ، وإن كانا غائبين ، على جهة الحكاية ، أي : إذا نظر إليهما الناظر قال : هذا وهذا . وقال ابن عباس : لما بلغ موسى أشده كان يحمي بني إسرائيل من الظلم والسخرة ، فبينما هو يمشي نظر رجلين يقتتلان ، أحدهما من القبط والآخر من بني إسرائيل . { فاستغاثه } فاستنصره { الذي من شيعته على الذي من عدوه } أي : فسأله أن يغيثه الإعانة . ضمَّن استغاث أعان ، فعداه بـ " على " . رُوي أنه لما استغاث به ، غضب موسى ، وقال للفرعوني : خله عنك ؟ فقال : إنما آخذه ليحمل الحطب إلى مطبخ أبيك ، ثم قال الفرعوني لموسى : لقد هممت أن أحمله عليك ، { فوكزه موسى } ضربه بِجُمْع كفه ، أو : بأطراف أصابعه . قال الفراء الوَكز : الدفع بأطراف الأصابع . { فقَضَى عليه } أي : قتله ، ولم يتعمد قتله ، وكان موسى عليه السلام ذا قوة وبطش ، وإنما فعل ذلك الوكز لأن إغاثة المظلوم والدفع عن دِين في الملل كلها ، وفرض في جميع الشرائع . وإنما عدَّه ذنباً لأن الأنبياء لا يكفي في حقهم الإذن العام ، فلذلك { قال هذا من عمل الشيطان } أي : القتل الحاصل ، بغير قصد ، من عمل الشيطان ، واستغفر ، وإنما جعل قتل الكافر من عمل الشيطان ، وسماه ظلماً لنفسه ، واستغفر منه لأنه كان مستأمناً فيهم ، أو : لأنه قتله قبل أن يُؤذن له في القتل . وعن ابن جريج : ليس لنبي أن يقتل ما لم يُؤمر ، ولأن الخصوص يٌعظمون محقرات ما فرط منهم . { إنه } أي : الشيطان { عدو مُضل مبين } ظاهر العداوة . { قال ربِّ } أي : يا رب { إني ظلمتُ نفسي } بفعل صار قتلاً { فاغفرْ لي } زلتي ، { فَغَفَرَ له } زلته ، { إنه هو الغفور } بإقالة الزلل ، { الرحيم } بإزالة الخجل ، { قال ربِّ بما أنعمت عليَّ } أي : بحق إنعامك عليّ بالمغفرة ولم تعاقبني { فلن أكون ظهيراً للمجرمين } أي : لا تجعلني أُعين على خطيئةَ ، تَوَسل للعصمة بإنعامه عليه . وقيل : إنه قسم حُذف جوابه ، أي : أُقْسِمُ بإنعامك عليَّ بالمغفرة ، إن عصمتني ، فلن أكون ظهيراً للمجرمين ، وأراد بمظاهرة المجرمين صُحْبَةَ فرعون ، وانتظامَهُ في جملته ، وتكثير سواده ، حيث كان يركب معه كالولد مع الوالد . قال ابن عطية : احتج أهل الفضل والعلم بهذه الآية في منع خدمة أهل الجور ، ومَعُونتهم في شيء من أمورهم ، ورأوا أنها تتناول ذلك . هـ . قال الْوُصَافِي لعطاء بن أبي رباح : إن لي أخاً يأخذ بقلمه ، وإنما يكتب ما يدخل ويخرج ، وله عيال ، ولو ترك لاحتاج وَادّانَ . فقال : من الرأس ؟ فقال : خالد بن عبد الله ، قال : أما تقرأ قول العبد الصالح : { ربّ بما أنعمتَ عليَّ فلن أكون ظهيراً للمجرمين } ، فإن الله عز وجل سيعينه . هـ . الإشارة : خصوصية الولاية كخصوصية النبوة ، لا تُعطى ، غَالِباً ، إلا بعد بلوغ الأشد وكمال قوة العقل ، وحصول الاستواء ، وهو أن يستوي عنده المدح والذم ، والعز والذل ، والمنع والعطاء ، والفقر والغنى ، وتستوي حاله في القبض والبسط ، والغضب والرضا ، فإذا استوى في هذه الأمور آتاه الله حكماً وعلماً ، وجزاه جزاء المحسنين وكتب شيخ شيخنا إلى بعض تلامذته : أمَّا بعد ، فإن تورعت في أقوالك وأفعالك ، وتوسعت في أخلاقك ، حتى يستوي عندك من من يمدحك ويذمك ، ويعطيك ويمنعك ، ومن يؤذيك وينفعك ، ومن يشدد عليك ويوسع ، فلا أشك في كمالك . هـ . فإن قلت : لِمَ ذكر الحق ، جَلَّ جلاله ، الاستواء في حق سيدنا موسى ، ولم يذكره في حق نبيه يوسف - عليهما السلام ؟ فالجواب : أن سيدنا يوسف عليه السلام تربى في السجن وفي نار الجلال ، وكل محنة تزيد تهذيباً وتدريباً ، فما بلغ الأشد حتى وقع له كمال الاستواء ، بخلاف سيدنا موسى عليه السلام فإنه تربى في العز والجمال ، فاحتاج إلى تربية وتهذيب ، بعد كمال الأشد ، فلم يحصل له كمال الأدب إلا بعد الاستواء الذي يليق به ، فلذلك ذكره حقه . والله تعالى أعلم . ثم قال تعالى : { فَأَصْبَحَ فِي ٱلْمَدِينَةِ خَآئِفاً … }