Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 28, Ayat: 18-21)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : جملة يسعى : حال من رجل لأنه وصف بالجار . يقول الحق جل جلاله : { فأصبح } موسى { في المدينةِ } أي : مصر { خائفاً } على نفسه من قتله قَوَداً بالقبطي ، وهذا الخوف أمر طبيعي لا ينافي الخصوصية ، { يترقبُ } : ينتظر الأخبار عنه ، أو ما يقال فيه ، أو يترصد الاستفادة منه . وقال ابن عطاء : خائفاً على نفسه ، يترقب نصرة ربه ، { فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه } : يستغيثه ، مشتق من الصراخ لأنه يقع في الغالب عند الاستغاثة . والمعنى : أن الإسرائيلي الذي خلصه موسى استغاث به ثانياً من قبطي آخر ، { قال له موسى } أي : للإسرائيلي : { إنك لغويٌّ مبين } أي : خال عن الرشد ، ظاهر الغي ، فقد قاتلتَ بالأمس رجُلاً فقتلتُه بسببك . قال ابن عباس : أُتِي فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قد قتلوا منا رجلاً ، فالقصاص ، فقال : ابغُوني القاتل والشهود ، فبينما هم يطلبون إذ مر موسى من الغد ، فرأى ذلك الإسرائيلي يقاتل فرعونياً آخر ، يريد أن يسخره ، فاستغاث به الإسرائيلي على الفرعوني ، فوافق موسى نادماً على القتل ، فقال للإسرائيلي : إنك لغوي مبين . { فلما أن أرادَ } موسى { أن يبطش بالذي } بالقبطي الذي { هو عدو لهما } لموسى وللإسرائيلي لأنه ليس على دينهما ، أو : لأن القبط كانوا أعداء بني إسرائيل ، أي : فلما مدّ موسى يده ليبطش بالفرعوني ، خشي الإسرائيلي أن يريده ، حين قال : { إنك لغوي مبين } ، فقال : { يا موسى أتريدُ أن تقتلني كما قتلتَ نفساً بالأمس } ، يعني القبطي ، { إنْ } ما { تريدُ إلا أن تكون جباراً } قتالاً بالغضب ، { في الأرض } أرض مصر ، { وما تريدُ أن تكون من المصلحين } في كظم الغيظ . وقيل : القائل : { يا موسى أتريد … } إلخ ، هو القبطي ، ولم يعلم أن موسى هو الذي قتل الرجل بالأمس ، ولكن لما قصد أن يمنعه من الإسرائيلي استدل على أن الذي قتل صاحب هذا الرجل بالأمس هو موسى ، فلما ذكر ذلك شاع في أفواه الناس أن موسى هو الذي قتل القبطي بالأمس ، فأمسك موسى عنه ، ثم أخبر فرعون بذلك فأمر بقتل موسى . { وجاء رجلٌ من أقصى المدينة } من آخرها ، واسمه : " حزقيل بن حبورا " ، مؤمن آل فرعون ، وكان ابن عم فرعون ، { يسعى } : يُسرع في مشيه ، أو : يمشي على رجله ، { قال يا موسى إن الملأ يأتمرون بك } ، أي : يتشاورون في قتلك ، ويأمر بعضهم بعضاً بذلك . والائتمار : التشاور ، { فاخْرجْ } من المدينة ، { إني لك من الناصحين } ، فاللام في لك : للبيان ، وليس بصلة لأن الصلة لا تتقدم على الموصول ، إلا أن يُتَسَامحَ في المجرور ، { فخرج منها } من مصر { خائفاً يترقّبُ } : ينتظر الطلب ويتوقعه ، { قال ربّ نجني من القوم الظالمين } قوم فرعون . والله تعالى أعلم . الإشارة : في الآية دليل على أن الخوف عند الدواهي الكبار لا ينافي الخصوصية لأنه أمر جِبِلِّي ، لكنه يخف ويهون أمره ، وفيها دليل على جواز الفرار من مواطن الهلاك ، يفرّ من الله إلىالله ، ولا ينافي التوكل ، وقد اختفى صلى الله عليه وسلم من الكفار بغار ثور ، واختفى الحسن البصري من الحَجَّاج ، عند تلميذه حبيب العجمي . وفيها أيضاً دليل على أن المعصية قد تكون سبباً في نيل الخصوصية ، كأكل آدم من الشجرة ، كان سبباً في نيل الخلافة ، وعُمْرَةِ الأرض ، وما نشأ من صُلبه من الأنبياء والأولياء وجهابذة العلماء ، وكقتل موسى عليه السلام نفساً لم يُؤمر بقتلها ، كان سبباً في خروجه للتربية عند شعيب عليه السلام ، وتهيئته للنبوة والرسالة والاصطفائية ، فكل ما يُوجب التواضع والانكسار يورث التقريب عند الملك الغفار ، والحاصل : أن من سبقت له العناية ، ونال من الأزل مقام المحبوبية صارت مساوئه محاسن ، ومن سبق له العكس صارت محاسنه مساوئ . اللهم اجعل سيئاتنا سيئات من أحببت ، ولا تجعل حسناتنا حسنات من أبغضت . وفي الحديث : " إذا أحب الله عبداً لم يضره ذنب " . قال في القوت : واعلم أن مسامحة ، الله عز وجل لأوليائه - يعني : في هفواتهم - في ثلاث مقامات : أن يقيمه مَقَامَ حَبيبٍ صَديقٍ ، لِمَا سبق من قدم صدق ، فلا تنقصه الذنوب لأنه حبيب . المقام الثاني : أن يقيمه مقام الحياء منه ، بإجلال وتعظيم ، فيسمح له ، وتصغر ذنوبه للإجلال والمنزلة ، ولا يمكن كشف هذا المقام ، إلا أنَّا روينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر طائفة فقال : " يدفع عنهم مساوئ أعمالهم بمحاسن أعمالهم " المقام الثالث : أن يقيمه مقام الحزن والانكسار ، والاعتراف بالذنب والإكثار ، فإذا نظر حزنه وهمه ، ورأى اعترافه وغمه ، غفر له حياء منه ورحمة . هـ . وبالله التوفيق . ثم ذكر توجه موسى إلى موسى إلى مدين واتصاله بشعيب - عليهما السّلام - فقال : { وَجَآءَ رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى ٱلْمَدِينَةِ … }