Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 28, Ayat: 36-39)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { فلما جاء موسى بآياتنا } معجزاتنا التسع { بيناتٍ } واضحات { قالوا ما هذا إلاّ سِحْرٌ مُفْتَرى } سحر تعمله أنت ، ثم تفتريه على الله ، أو : سحر موصوف بالافتراء ، كسائر أنواع السحر ، وليس بمعجزة من عند الله ، { وما سمعنا بهذا } ، يعني : السحر ، أو : ادعاء النبوة ، { في آبائنا الأولين } ، الجار : حال منصوبة بهذا ، أي : ما سمعنا بهذا كائناً في آبائنا ، أي : ما حُدِّثْنَا بكونه فيهم ، ولا موجوداً في آبائهم . { وقال موسى ربي أعلمُ بمن جاء بالهُدَى من عنده } ، فيعلم أني محق ، وأنتم مبطلون ، وقرأ ابن كثير : " قال " بغير واو جواباً لمقالتهم . { ومَن تكونُ له عاقبةُ الدار } أي : العاقبة المحمودة ، فإن المراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها الأصلية هي الجنة لأن الدنيا خلقت مَعْبراً ومجازاً إلى الآخرة ، والمقصود منها ، بالذات ، هو المجازاة على الأعمال فيها من الثواب الدائم ، أوالعقاب الأليم ، { إنه لا يُفلِحُ الظالمون } لا يفوزون بالهدى في الدنيا ، وحسن العاقبة في العقبى . قال النسفي : قل ربي أعلم منكم بحال من أَهَّلَهُ الله للفلاح الأعظم حيث جعله نبياً وبعثه بالهدى ، ووعده حُسْنَ العُقْبَى ، يعني نفسه ، ولو كان كما تزعمون ، ساحراً ، مفترياً ، لما أَهَّلَهُ لذلك لأنه غني حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا يُنَبِّىءُ الساحرين ، ولا يفلح عنده الظالمون ، وعاقبة الدار هي العاقبة المحمودة لقوله تعالى : { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عُقْبَىٰ ٱلدَّارِ جَنِّـٰتِ عَدْنٍ } [ الرعد : 22 ] . والمراد بالدار : الدنيا ، وعاقبتها : أن تختم للعبد بالرحمة والرضوان ، ويلقى الملائكة بالبشرى والغفران . هـ . { وقال فرعونُ يا أيها الملأُ ما علمتُ لكم من إلهٍ غيري } ، قصد بنفي علمه بإله غيره نَفِيَ وُجُودِهِ ، أي : مالكم إله غيري . قاله تجبراً ومكابرة ، وإلا فهو مقر بالربوبية لقوله تعالى حاكياً عن موسى عليه اسلام : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هَـٰؤُلاۤءِ إِلاَّ رَبُّ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ بَصَآئِرَ } [ الإسراء : 102 ] ، ورُوي أنه كان إذا جن الليل ، لبس المسوح وتمرغ في الرماد ، وقال : يا رب إني كذاب فلا تفضحني . ثم أَمَرَ ببنيان الصرح زيادة في الطغيان ، بقوله : { فأوقِدْ لي يا هامانُ على الطين } أي : اطبخ لي الآجر واتخذه . وإنما لم يقل مكان الطين : آجرّ لأنه أول من عمله ، فهو معلمه الصنعة بهذه العبارة ، { فاجعل لي صرحاً } أي : قصراً عالياً ، { لعَلِّي أَطَّلِعُ } أي : أصعد . فالطلوع والاطلاع : الصعود ، { إلى إِلهِ موسى } ، حسب الجاهل أنه في مكان مخصوص ، كما كان هو في مكان ، { وإِني لأظنه } أي : موسى { من الكاذبين } في دعواه أن له إلهاً ، وأنه أرسله إلينا رسولاً . وهذا تناقض من المخذول ، فإنه قال أولاً : { ما علمتُ لكم من إله غيري } ، ثم أظهر حاجته إلى هامان ، وأثبت لموسى إلهاً ، وأخبر أنه غير متيقن بكذبه ، وهذا كله تهافت . وكأنه تحصن من عصى موسى فلبّس وقال : { لعلِّي أطلعُ إلى إله موسى } . رُوي أنه لما أمر وزيره هامان ببناء الصرح ، جمع هامانُ العمال ، خمسين ألف بنّاء ، سوى الأتباع والأُجراء - فبنوا ، ورفعوه بحيث لم يبلغه بنيان قط ، منذ خلق الله السموات والأرض . أراد الله أن يفتنهم فيه ، فصعده فرعون وقومه ، ورموا بُنُشّابة نحو السماء ، فرجعت مُلَطَّخَةَ بالدم ، فقال : قد قتلنا إله السماء ، فضرب جبريل الصرح بجناحه ، فقطعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون ، فقتلت ألفَ ألفِ رجل ، وقطعة على البحر ، وقطعة في الغرب ، ولم يبق أحد من عماله إلا هلك . هـ . { واستكبر هو وجنوده } تعاظم { في الأرض } أرض موسى { بغير الحق } بغير استحقاق ، بل بالباطل ، فالاستكبار بالحق هو لله تعالى ، وهو المتكبر المتعالي ، المبالغ في كبرياء الشأن ، كما في الحديث القدسي : " الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحداً منهما قصمته " ، أو : ألقيته في النار ، وكل مستكبر سواه فاستكباره بغير الحق . { وظنوا أنهم إلينا لا يُرجَعُون } بالبعث والنشور . وقرأ نافع وحمزة والكسائي : بالبناء للفاعل . والباقي : للمفعول . والله تعالى أعلم . الإشارة : الأرواح كلها برزت من عالم العز والكبرياء ، وهو عالم الجبروت ، فما هبطت إلى عالم الأشباح ، وكلفت بالعبودية ، وبالخضوع لقهرية الربوبية ، شق عليها ، ونفرت من التواضع والذل ، وبطشت إلى أصلها لأنها من عالم العز ، فبعث الله الرسل ومشايخ التربية يدلونها على ما فيه سعادتها . من الذل والتواضع والخضوع للحق ، حتى تصل إلى الحق ، فمن سبق له الشقاء أنف ، وقال : ما هذا إلا سحر مفترى ، وما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين ، واستكبر وطغى ، فغرق في بحر الردى . ومن سبقت له السعادة تواضع ، وذل لعظمة مولاه ، فوصله إلى العز الدائم ، في حضرة جماله وسناه . ولذلك قيل : للنفس خاصية ما ظهرت إلا على فرعون ، حيث قال : أنا ربكم الأعلى . وهذه الخاصية هي أصل نشأتها وبروزها ، حيث برزت من عالم الجبروت قال تعالى : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } ولكن لم يفتح لها الباب إلا من جهة العبودية والذل والافتقار ، كما قال الشاعر : @ تَذَلَّلْ لِمَنْ تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزَّةً فَكَمْ عِزَّةٍ قَدْ نالَهَا المَرْءُ بِالذُّلِّ إِذَا كَانَ مَنْ تَهْوى عَزِيزاً ، وَلَمْ تَكُنْ ذَلِيلاً لَهُ ، فَاقْرَ السَّلامَ على الْوَصْلِ @@ ولا يرضى المحبوب من المحب إلا الأدب ، وهو التذلل والخضوع ، كما قائل القائل : @ أدَبُ الْعَبْـدِ تَـذَلُّـلٌ وَالْعَبْــدُ لاَ يَــدَعُ الأدَبْ فَإذَا تَكَـامَـلَ ذُلّـــهُ نَــالَ الْمَـوَدَّةَ ، وَاقْتَـرَبْ @@ ثم ذكر وبال من تكبّر على الله ، فقال : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ … } .