Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 1-3)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : الحسبان : قوة أحد النقيضين على الآخر ، كالظن ، بخلاف الشك ، فهو الوقوف بينهما . والعلم : هو القطع بأحدهما ، ولا يصح تعلقهما بمعاني المفردات ، ولكن بمضامين الجمل ، فلا أقول : حَسِبْتُ زيداً وظننت الفرس بل حسبت زيداً قائماً ، والفرس جواداً . والكلام الدال على المضمون ، الذي يقتضيه الحسبان هنا أن يتركوا مع قوله : { وهم لا يفتنون } أي : أحسبوا تركهم غير مفتونين لأن يقولوا : آمنا . يقول الحق جل جلاله : { الم } : الألف : لوحدة أسرار الجبروت ، واللام : لفيضان أنوار الملكوت ، والميم : لاتصال المادة بعالم الملك . فكأنه تعالى أقسم بوحدة جبروته وأنوار ملكوته واتصال مادته بملكه وخليقته ، أنه لا يدع دعوة مدع إلا ويختبره ليظهر صدقه أو كذبه ، وهذا معنى قوله : { أحَسِبَ الناسُ } أي : أظن الناس { أن يُتركوا } غير - مفتونين ومختَبَرِين ، { أن يقولوا آمنَّا وهم لا يُفتنون } أظنوا أن يَدَّعوا الإيمان ولا يُختبرون عليه ليظهر الصادق من الكاذب ، بل يمتحنهم الله بمشاق التكليف من مفارقة الأوطان ، ومجاهدة الأعداء ، ورفض الشهوات ، ووظائف الطاعات ، وبالفقر ، والقحط ، وأنواع المصائب في الأموال والأنفس ، وإذاية الخلق ليتميز المخلص من المنافق ، والثابت في الدين من المضطرب فيه ، ولينالوا بالصبر على ذلك عوالي الدرجات ، فإن مجرد الإيمان ، وإن كان على خلوص قلب ، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب ، وما ينال العبدَ من المكاره يسمو به إلى أعلى الدرجات وأعظم المقامات ، مع ما في ذلك من تصفية النفس وتهذيبها ، لتتهيأ لإشراق أنوار مقام الإحسان . رُوي أنها نزلت في ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد جزعوا من أذى المشركين ، وضاقت صدورهم من ذلك ، وربما استنكر بعضهم أن يُمكِّن اللهُ الكفرةَ من المؤمنين . فزلت مُسلِّية ومعِلْمة أن هذه هي سيرة الله في عباده اختباراً لهم . قال تعالى : { ولقد فتنَّا الذين مِنْ قبلهم } بأنواع المحن فمنهم من كان يُوضع المناشر على رأسه ، فَيُفْرَقُ فرقتين ، وما يصرفه ذلك عن دينه ، ومنهم من كان يمشط بأمشاط الحديد ، ومنهم من كان يُطرح في النار ، وما يصده ذلك عن دينه . { فليعْلَمَنَّ اللهُ } بذلك الامتحان { الذين صَدَقُوا } في الإيمان بالثبات ، { وليعلمنَّ الكاذبين } بالرجوع عنه . ومعنى علمه تعالى به ، أي : علم ظهور وتمييز . والمعنى : ولَيُمَيِّزَنَّ الصادق منهم من الكاذب ، في الدنيا والآخرة . قال ابن عطاء : يَتَبَيَّن صدق العبد من كذبه في أوقات الرخاء والبلاء ، فمن شكر في أيام الرخاء ، وصبر في أيام البلاء ، فهو من الصادقين ، ومن بطر في أيام الدنيا ، وجزع في أيام البلاء ، فهو من الكاذبين . هـ . الإشارة : سُنَّة الله تعالى في أوليائه : أن يمتحنهم في البدايات ، فإذا تمكنوا من معرفة الله ، وكمل تهذيبهم ، أعزهم ونصرهم ، وأظهرهم لعباده . ومنهم من يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه على ذلك وهم عرائس الملكوت ، ضنَّ بهم أن يظهرهم لخلقه . والامتحان يكون على قدر المقام ، وفي الحديث : " أشدُّ الناسِ بلاءً : الأنبياء ، ثم الأمْثَلُ فالأمثلُ ، يُبْتَلَى الرجلُ على قدر ديِنهِ ، فإن كان في دينه صُلْباً اشتد بلاؤُهُ وإن كان في دينِه رقَّةٌ ابتلى على قَدرِ دينِه فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يَتْرُكَهُ يَمْشِي على الأرْضِ وما عليه مِنْ خَطِيئة " . وقال صلى الله عليه وسلم : " أشدُّ الناسِِ بلاءً في الدنيا : نبي أو صفي " وقال صلى الله عليه وسلم : " أشدُّ الناس بلاءً : الأنبياءُ ، ثم الصالحون . لقد كان أحدهم يُبْتَلى بالفقر ، حتى ما يَجَدَ إلا العباءَةَ يُحَوِّيهَا فيلبسها ، ويُبْتَلى بالقَمَلِ حتى يَقْتُلَهُ ولأَحَدُهُمْ كان أشدَّ فرحاً بالبلاء من أحَدِكُم بالعطاء " من الجامع . والله تعالى أعلم . ثم ذكر المؤذين لهم ، فقال : { أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ يَعْمَلُونَ … }