Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 29, Ayat: 28-35)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جل جلاله : { و } اذكر { لوطاً إِذْ قال لقومه إِنكم لتأتون الفاحشةَ } أي : الفعلة البالغة في القُبح ، وهي اللواطة ، { ما سَبَقَكم بها من أحدٍ من العالمين } : جملة مستأنفة مقررة لفحش تلك الفعلة ، كأن قائلاً قال : لِمَ كانت فاحشة ؟ فقال : لأن أحداً ممن قبلهم لم يقدم عليها ، قالوا : لم يَنْزُ ذكر على ذكر قبل قوم لوط . { أئِنكم لتأتون الرجالَ وتقطعون السبيلَ } اي : تتعرضون للسابلة بالقتل وأخذ المال ، كما هو شأن قُطاع الطريق ، وقيل : اعتراضهم السابلة لقصد الفاحشة ، { وتأتون في ناديكم } في مجالسكم الغاصة بأهلها ، ولا يقال للمجلس : ناد ، إلا ما دام فيه أهله ، { المنكرَ } فعلهم الفاحشة بالرجال ، أو المضارطة ، أو : السباب والفحش في المزاح ، أو الحذف بالحصى ، أو : مضغ العلك ، أو الفرقعة . وعن أم هانىء - رضي اله عنها - أنها سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن قوله : { وتأتون في ناديكم المنكر } ؟ فقال : " كانوا يحذفون من يمرّ بهم الطريق ، ويسخرون منهم " وقال معاوية : قال النبي صلى الله عليه وسلم : " إن قوم لوط كانوا يجلسون في مجالسهم ، وعند كل قصعة من الحصى ، فإذا مر بهم عابر قذفوه ، فأيهم أصابه كان أَوْلَى به " . { فما كان جوابَ قومه إلا أن قالوا ائتنا بعذابِ الله إن كنت من الصادقين } فيما تعدنا من نزول العذاب ، أو في دعوى النبوة ، المفهومة من التوبيخ ، { قال ربِّ انصرني } بإنزال العذاب { على القوم المفسدين } بابتداع الفاحشة وحمل الناس عليها ، وسَنِّهَا لِمَنْ بعدهم . وصفهم بذلك مبالغة استنزال العذاب ، وإشعاراً بأنهم أحِقاء بأن يعجل لهم العذاب { ولما جاءت رسلُنا إبراهيم بالبشرى } ، جاءت الملائكة بالبشارة لإبراهيم بالولد ، والنافلة إسحاق ، ويعقوب ، أي : مروا عليه ، حين كانوا قاصدين قوم لوط ، { قالوا إنا مهلكوا أهْلِ هذه القرية } سدوم ، والإشارة بهذه القرية تشعر بأنها قريبة من موضع إبراهيم عليه السلام ، قالوا : إنها كانت على مسيرة يوم وليلة من موضع إبراهيم ، قاله النسفي . { إن أهلها كانوا ظالمين } ، تعليل للإهلاك ، أي : إن الظلم قد استمر منهم في الأيام السالفة ، وهم عليه مُصِرُّونَ ، وهو كفرهم وأنواع معاصيهم . { قال } إبراهيم : { إن فيها لوطاً } أي : أتهلكونهم وفيهم من هو بريء من الظلم ، أو : وفيهم نبي بين أظهرهم ؟ { قالوا } أي : الملائكة : { نحن أعلمُ } منك { بمن فيها لننجيَّنه وأهله إلا امرأته كانت من الغابرين } الباقين في العذاب . ثم أخبر عن مسير الملائكة إلى لوط بعد مفارقتهم إبراهيم ، فقال : { ولما أن جاءتْ رُسُلُنَا لوطاً سِيء بهم } أي : ساءه مجيئُهم وغمه مخافة أن يقصدهم قومه بسوء . و " أن " : صلة لتأكيد الفعلين وترتيب أحدهما على الآخر كأنهما وُجِدا في جزء واحد من الزمان كأنه قيل : لمَّا أحس بمجيئهم فاجأته المساءة من غير ترتيب . { وضاق بهم ذَرْعاً } أي : ضاق بشأنهم وتدبير أمرهم ذرعُه وطاقته ، وقد جعلوا ضيقَ الذرعِ والذراع عبارةً عن فقد الطاقة ، كما قالوا : رحْب الذراع ، إذا كان مُطيقاً للأمور ، والأصلَ فيه : إن الرجل إذا طالت ذراعه نال مالا يناله القصير ، فاستعير للطاقة والقوة وعدمها . { وقالوا } ، لمّا رأوا فيه أثر الضجر والخوف : { لا تخفْ ولا تحزنْ } على تمكنهم منا ، { إنا منجُّوكَ وأهلَكَ } أي : وننجي أهلك ، فالكاف في محل الجر ، و " أهلك " : نصب بفعل محذوف ، { إلا إمرأتكَ كانت من الغابرين } . في الكلام حذف يدل عليه ما في هود ، أي : لا تخف ولا تحزن من أجلنا ، إنهم لن يصلوا إليك ونحن عندك ، بل يهلكون جميعاً ، وأما أنت فإنا منجوك … إلخ لأن خوفه إنما كان عليهم لا على نفسه . أو يقدر : إنا منجوك وأهلك بعد هلاكهم . ثم قالوا : { إنا منزلون على أهلِ هذه القرية رِجْزاً } عذاباً { من السماء بما كانوا يَفْسُقُون } بسبب فسقهم . { ولقد تركنا منها } من القرية { آية بينةً } هي حكايتها الشائعة ، أوآثار منازلهم الخربة ، وقيل : الماء الأسود على وجه الأرض ، حيث بقيت أنهارهم مسودة ، وقيل : الحجارة المسطورة ، فإنها بقيت بعدهم آية { لقومٍ يعقلون } يستعملون عقولهم في الاعتبار والاستبصار . والله تعالى أعلم . الإشارة : قوله تعالى : { وتأتون في ناديكم المنكر } قال القشيري : من جملة المنكر : تخلية الفُسَّاق مع فِسقهم ، وترك القبض على أيديهم ، ومن ذلك : ترك الاحتشام للشيوخ والأكابر . هـ . وقال في قوله تعالى : { إن فيها لوطاً } ، لما أخبروه بمقصدهم من إهلاك قوم لوط تكلم في شأن لوط ، إلى أن قالوا : { لننجينه … } إلخ ، فدلّ ذلك على أن الله تعالى لو أراد إهلاك لوط ، ولو كان بريئاً ، لم يكن ظلماً ، لو كان كذلك قبيحاً لما كان إبراهيم - مع وفْر علمه - يُشكل عليه ، حتى كان يجادل عنه ، بل لله أن يعذِّبُ مَنْ يعذِّب ويعافي ، من يعافي بلا حَجر هـ . قال شيخ شيوخنا الفاسي في حاشيته : وما ذكره واضح من حيث العقيدة ، وإن كانت الآية ، وقولُ إبراهيم يحتمل أن يكون من نوع قوله تعالى : { وَمَا كَانَ ٱللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] . والمعنى الأول معلوم من قوله تعالى : { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ ٱلْمَسِيحَ ٱبْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ } [ المائدة : 17 ] الآية . هـ . قلت : ظاهر قوله تعالى : { يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 74 ] أن مجادلته كانت عن قومه فقط لغلبة الشفقة عليه ، كما هو شأنه ، ولذلك قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } [ هود : 75 ] … حتى قال له تعالى : { يَـٰإِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَآ } [ هود : 76 ] لَمَّا تَحَتَّمَ عليهم العذاب ، فتأمله . ثم ذكر قصة شعيب ، فقال : { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ … }