Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 3, Ayat: 100-102)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الذين آمنوا } ، الخطاب عامٌ ، والمراد : نفر من الأوس والخزرج ، { إن تُطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب } ، وهو شاسُ بن قيس اليهودي ، كان شيخاً كبيراً ، وكان عظيمَ الكفر شديد الضغن على المسلمين ، مرَّ بنفر من الأوس والخزرج ، جلوساً يتحدثون ، وكان بينهما عداوة في الجاهلية ، فغاظه تآلفهم واجتماعهم ، وقال : قد اجتمع ملأ بني قَيْلَة بهذه البلاد ، فما لنا معهم قرار ، فأمر شاباً من اليهود أن يجلس بينهم ويُذكِّرهم يوم بعاث - وهو يوم حرب كان بينهم في الجاهلية - ويُنشدهم بعض ما قيل فيه ، وكان الظفرُ في ذلك اليوم للأوس ، ففعل ، وتنازع القوم وتفاخروا وتغاضبوا ، وقالوا : السلاحَ السلاحَ ، واجتمع من القبيلتين خلق عظيم ، فتوجه إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : " أبدعْوَى الجَاهِليةِ وأنا بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ ، بعدَ إذ أكْرَمَكْم اللّهُ بالإسْلام ، وقَطَعَ به عَنْكُم أمْرَ الجَاهِلِية ، وألْفَ بَينكُم ؟ " فعلموا أنها نزغة ٌ من الشيطان وكيدٌ من عدوهم ، فَأَلَقَوا السِّلاحَ ، واستغفروا وعانق بعضهم بعضاً ، وانصرفوا مع الرسول - صلوات الله عليه وسلامه - فنزلت الآية . { يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً } من اليهود { يردوكم بعد إيمانكم كافرين } يُبيح بعضكم دماء بعض ، كما كنتم في الجاهلية ، { وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله } الدالة على تحريم الدماء والشحناء ، { وفيكم رسوله } الهادي إلى الصراط المستقيم ، وهو إنكار وتعجُّبٌ من كفرهم ، بعد اجتماع الأسباب الداعية إلى الإيمان ، الصارفة عن الكفران ، وإنما خاطبهم الله بنفسه بعد ما أمر الرسولَ بأن يخاطب أهل الكتاب إظهاراً لجلالة قدرهم ، وإشعاراً بأنهم الأحقاء بأن يخاطبهم الله ويكلمهم ، دون أهل الكتاب لبعدهم عن استحقاق مواجهة الخطاب من الكريم الوهاب . { ومن يعتصم بالله } ويتمسك بدينه { فقد هدي إلى صراط مستقيم } لا عوج يفه وأصل الاعتصام : التمتع . ثم حضّ على التقوى الكاملة والدوام على الإسلام ، تنفيراً من الاستماع لمن يخرج عنها ، قال : { يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته } ، قال عليه الصلاة والسلام : " حق تقاته هو أن يُطاعَ فلا يُعْصَى طرفةَ عين ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر " ولما نزلت قالوا : يا رسول الله من يقوى على هذا ؟ وشق عليهم ، فنزلت : { فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التّغَابُن : 16 ] ، فنسختها . وقال مُقاتل : معناه : اتقوا الله حقَّ تقاته ، فإن لم تستطيعوا فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون . وعن أنس مالك ، قال : لا يتقي الله عبدٌ حق تقاته حتى يُخْزِن من لسانه ، وقيل : ليست بمنسوخة لأنَّ مَنْ جَانَبَ ما نهى الله عنه ، وفعل من الطاعة ما استطاع ، فقد اتقى الله حق تقاته ، فمعناها واحد . وسيأتي تحديد ذلك في الإشارة ، إن شاء الله . قال البيضاوي : وقيل : معنى { حق تقاته } : أن يُنزه الطاعة عن الالتفات إليها ، وعن توقع المجازاة عليها ، وفي هذا الأمر تأكيدٌ للنهي عن طاعة أهل الكتاب ، { ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون } أي : لا تكونوا على حالةٍ سوى الإسلام ، إلى أن يردككم الموت . هـ . أماتنا الله على حسن الختام ، مع السلامة والعافية على الدوام . الإشارة : كما نهى الله عن طاعة من يرد عن الإيمان ، نهى عن طاعة من يصد عن مقام الإحسان ، كائناً ما كان ، وكيف يرجع عن مقام التحقيق ، وقد ظهرت معالم الطريق لمن سبقت له العناية والتوفيق ! . قال بعضهم : والله ما رَجَعَ مَنْ رَجَعَ إلا من الطريق ، وأما من وصل فلا يرجع أبداً . إذ لا يمكن أن يرجع من عين اليقين إلى علمِ اليقين ، أو من اليقين إلى الظن . ومن أراد الثبات على اليقين فليعتصم بحبل الله المتين ، وهو صحبة العارفين ، فمن اعتصم بهم فقد اعتصم بالله ، { وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِىَ إِلَى صِراطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ آل عِمرَان : 101 ] . ثم خاطب أهل الإحسان فقال : { يا أيها الذين آمنوا اقتوا الله حق تقاته } بأن تغيبوا عما سواه ، ولا تموتن إلا وأنتم منقادون لأحكام الربوبية ، قائمون بوظائف العبودية . فهذه الآية خطاب لأهل الإحسان ، و { فَاْتَّقُواْ اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ } [ التغابن : 16 ] : خطاب لأهل افسلام والإيمان ، أو هذه لأهل التجريد ، والثانية لأهل الأسباب ، أو لأهل الباطن ، والثانية لأهل الظاهر ، فلكل آية أهل ومحل ، فلا نسخ ولا تعارض . وقال الشيخ أبو العباس رضي الله عنه : من أراد الجمع بين الآيتين فليتق الله حق تقاته بباطنه ، وليتق الله ما استطاع بظاهره . هـ . وبالله التوفيق .