Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 191-194)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحقّ جلّ جلاله : في وصف أولي الألباب : هم { الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم } ، أي : يذكرونه على الدوام ، قائمين وقاعدين ومضطجعين ، وعنه - صلى الله عليه وسلم - : " منْ أرادَ أن يَرْتَع في رِيَاضِ الجَنة فليُكثْر ذِكرَ الله " وقيل : يُصلّون على الهيئات الثلاث ، حسب الطاعة لقوله عليه الصلاة والسلام لعمران بن حصين ، وكان مريضاً : " صَلِّ قائِماً ، فإِنْ لَمْ تَسْتَطْع فقاعِداً ، فإنْ لَمْ تَستطِعْ فعلى جَنْبِكَ وتُومئ إيماء " . { ويتفكرون في خلق السماوات والأرض } استدلالاً واعتباراً ، وهو أفضل العبادات قال صلى الله عليه وسلم : " لا عبادة كالتفكر " لأن المخصوص بالقلب ، والمقصود من الخلق ، وعنه صلى الله عليه وسلم : " بينَمَا رجلٌ مُسْتَلقٍ على فِرَاشهِ فَنَظَر إلى السماءِ والنُجومِ ، فَقَال : أشْهدُ أن لَكِ خَالِقًَ ، اللُهمَّ اغفرْ لي ، فَنَظَر اللّهُ إِليه فَغَفر لَهْ " وهذا دليل واضح على شرف علم الأصول وفضل أهله . قاله البيضاوي . وسيأتي مزيد من كلام على التفكر في الإشارة إن شاء الله . فلما تفكروا في عجائب المصنوعات ، قالوا : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } أي : عبثاً من غير حكمة ، بل خلقته لحكمة بديعة ، من جملتها : ان يكون مبدأ لوجود الإنسان ، وسبباً لمعاشه ، ودليلاً يدله على معرفتك ويحثه على طاعتك ، لينال الحياة الأبدية ، والسعادة السرمدية في جوارك ، { سبحانك } تنزيهاً لك من العبث وخلق الباطل ، { فَقِنَا عذابَ النار } التي استحقها من أعرض عن النظر والاعتبار ، وأخلّ بما يقتضيه من أحكام الواحد القهار ، { وما للظالمين من أنصار } يمنعونهم من دخول النار . ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن ظلمهم سبب لإدخالهم النار ، وانقطاع النصرة عنهم في دار البوار . { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان } ، وهو الرسول العظيم الشأن ، أو القرآن قائلا : { أن آمنوا بربكم } ووحدوه ، فأجبنا نداءه وآمنا ، { ربنا فاغفر لنا ذنوبنا } الكبائر ، { وكفر عنا سيئاتنا } الصغائر ، { وتوفنا مع الأبرار } المصطفين الأخيار ، مخصوصين بصحبتهم ، معدودين في زمرتهم ، وفيه تنبيه على أنهم يُحبون لقاء الله فأحب الله لقاءهم ، { ربنا وآتنا ما وعدتنا على } تصديق { رسلك } من الثواب ، أو على ألسنة رسلك من الفضل والرحمة وحسن المآب ، سألوا ما وُعدوا على الامتثال ، لا خوفاً من إخلاف الوعدن بل مخافة ألاَّ يكونوا موعودين لسوء عاقبة ، أو قصور في الامتثال ، أو تعبداً ، أو استكانة . قاله البيضاوي . { ولا تخزنا يوم القيامة } أي : لا تُهِنَّا بسبب تقصيرنا ، { إنك لا تخلف الميعاد } بإثابة المؤمن وإجابة الداعي ، أو ميعاد البعث والحساب ، وتكرير { ربنا } للمبالغة في الابتهال ، والدلالة على استقلال المطالب وعلو شأنها ، ففي بعض الآثار : من حزبه أمر فقال خمس مرات : " ربنا " ، أنجاه الله مما يخاف . قاله البيضاوي . الإشارة : قدَّم الحق الذكر على الفكر على ترتيب السير ، فإن المريد يُؤمَر أول أَمرِهِ بذكر اللسان ، حتى يفضي إلى الجنان ، فينتقل الذكر إلى القلب ، ثم إلى الروح ، وهو الفكر ، ثم إلى السر ، وهو الشهود والعيان ، وهنا يخرس اللسان ، ويغيب الإنسان في أنوار العيان ، وفي ذلك يقول القائل : @ مَا إنْ ذَكَرْتُكَ إلاَّ هَمَّ يَلْعَنُنِي سِرِّي ورُوحِي وقَلْبي عِنْدَ ذِكرَاكَ حَتَّى كَأنَّ رقيباً مِنكَ يَهْتِفُ بِي : إيَّاكَ : وَيْحَكَ والتَّذْكَارَ ! إيَّاكَ ! أمَا تَرَى الحَقَّ قَدْ لاحَتْ شَوَاهِدُهُ وَوَاصَلَ الكُلَّ مِنْ مَعْنَاهُ مَعْنَاكَ @@ فإذا بلغ العبد هذا المقام - الذي هو مقام الإفراد - اتحدت عنده الأوراد ، وصار ورداً واحداً ، وهو عكوف القلب في الحضرة بين فكرة ونظرة ، أو إفراد القلب بالله ، وتغيبه عما سواه . قال في الإحياء في كتاب الأوراد : الموحد المستغرق الهم بالواحد الصمد ، الذي أصبح وهمومه هم واحد ، فلا يحب إلا الله ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يتوقع الرزق من غيره ، ولا ينظر في شيء إلا يرى الله فيه ، فمن ارتفعت رتبته إلى هذه الدرجة ، لم يفتقر إلى ترتيب الأوراد واختلافها ، بل ورده بعد المكتوبات ورد واحد ، وهو حضور القلب مع الله في كل حال ، فلا يخطر بقلبه أمر ، ولا يقرع سمعه قارع ، ولا يلوح لنظره لائح ، إلاَّ كان له فيه عبرة وفكرة ومزيد ، فلا محرك ولا مسكن إلا الله . فهؤلاء جميع أحوالهم تصلح أن تكون سبباً لازديادهم ، فلا تتميز عندهم عبادة عن عبادة ، وهم الذين فرّوا إلى الله كما قال تعالى : { ففرّوا إلى الله } ، وتحقق فيهم قوله : { إني ذاهب إلى ربي } ، وهذه الدرجة منتهى درجة الصديقين ، ولا ينبغي أن يغتر المريد بما يسمعه من ذلك ، فيدعيه لنفسه ، ويفتر عن وظائف عباداته ، فذلك علامته ألا يحس في قلبه وسواساً ، ولا يخطر بقلبه معصية ، لا يزعجه هواجم الأحوال ، ولا يستفزه عظائم الأشغال ، وأنى تكون هذه المرتبة ! . هـ . قلت : قوله : [ لا يخطر بقلبه معصية ] غير لازم لأن قلب العارف مرسى للتجليات النورانية والظلمانية لكنها تقل ولا تسكن . وقال في موضع آخر : وأما عبادة ذوي الألباب فلا تجاوز ذكر الله تعالى والفكر فيه حُبّاً لجلاله وجماله ، وسار الأعمال تكون مؤكدات . قال : والعامل لأجر الجنة درجته درجة البُلْه ، وإنه لينالها بعمله إذ أكثر أهل الجنة البله . هـ . وقال في كتاب كيمياء السعادة : وقد غلط من ظن أن وظائف الضعفاء كوظائف الأقوياء ، حتى قال بعض مشايخ الصوفية : من رأني في الابتداء ، قال : صار صديقاً ، ومن رآني في الانتهاء ، قال : صار زنديقاً ، يعني أن الابتداء يقتضي المجاهدة الظاهرة للأعين بكثرة العبادات ، وفي الانتهاء يرجع العمل إلى الباطن ، فيبقى القلب على الدوام في عين الشهود والحضور ، وتفتر ظواهر الأعضاء ، فيظن أن ذلك تهاون بالعبادة ، وهيهات هيهات ! ! ، فذلك استغراق لمخ العبادات ولبابها وغياتها ، ولكن أعين الخفافيش تكل عن درك نور الشمس . هـ . قال شيخ شيوخنا - سيدي عبد الرحمن العارف - بعد نقل كلام القشيري في هذا المعنى : وما أشار إليه ظاهر في أن أهل القلوب لا يتعاطون كل طاعة . وإنما يتعاطون من الطاعات ما يجمعهم ولا يفرقهم . ولذلك قال الجنيد : أحب للصوفي ألا يقرأ ولا يكتب لأنه أجمع لهمه ، قال : وأحب للمريد ألا يشتغل بالتكسب وطلب الحديث لئلا يتغير حاله . هـ . قلت : ومن رزقه الله شيخ التربية فما عيَّنه له فهو عين ذكره ، يسير به كيفما كان . هذا ما يتعلق بحال الذكر الذي قدَّمه الله تعالى ، وأما التفكر فهو أعظم العبادات وأفضل القربات ، هو عبادة العارفين ومنتهى المقربين . وفي الخبر : " تفكرُ سَاعةٍ أفضَل مِنْ عَبَادَةِ سبعينَ سَنة " . وقال الجنيد رضي الله عنه : أشرف المجالس وأعلاها : الجلوس مع الفكرة في ميدان التوحيد ، والتنسم بنسيم المعرفة ، والشرب بكأس المحبة من بحر الوداد ، والنظر لحسن الظن بالله تعالى . ثم قال : يا لها من مجالس ، ما أجلها ، ومن شرابٍ ما ألذه ، طوبى لمن رزقه . وقال القشيري رضي الله عنه التفكر نعت كل طالب ، وثمرته : الوصول بشرط العلم ، فإذا سلم الفكر عن الشوائب ورد صاحبهُ على مناهل التحقيق . هـ . وسئلت زوجة أبي ذر عن عبادة زوجها ، فقالت : كان نهاره أجمع في ناحية يتفكر . وكذلك زوجة أبي بكر قالت : كان ليله أجمع في ناحية يتفكر . وكذا زوجة أبي الدرداء ، وكان سيدنا عيسى عليه السلام يقول : طوبى لمن كان قيله ذكراً وصمته تفكراً ، ونظره عبرة . وقال الحسن رضي الله عنه : من لم يكن كلامه حكمة فهو لغو ، ومن لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو ، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو . هـ . وقال في الحكم : " ما نفع القلب شيء مثل عزلة يدخل بها ميدان فكرة " . وقال أيضاً : " الفكرة سراج القلب ، فإذا ذهبت فلا إضاءة له " . وقال أيضاً : " الفكرة فكرتان فكرة تصديق وإيمان ، وفكرة شهود وعيان ، فالأولى لأرباب الاعتبار ، والثانية لأرباب الشهود والاستبصار " . وفكرة الشهود والعيان هي عبادة العارفين ، ولا يُحصر ثوابها في ستين ولا في سبعين ، بل وقت منها يعدل ألف سنة ، كما قال الشاعر : @ كَلُّ وَقْتٍ مِنْ حَبِيبِي قَدْرُهُ كَأَلفِ حَجّه @@ فأوقات هؤلاء كلها ليلة القدر ، ومن لم يبلغ هذا المقام فليبك على نفسه على الدوام ، ومن ظفر بها ونالها حق له الهناء ، وفي أمثاله قال القائل : @ هُم الرِّجَالُ وغَبْنٌ أنْ يُقَالَ لِمَنْ لَمْ يَتَّصِفُ بمَعَاني وَصْفِهِمْ رَجُلُ @@ حققنا الله بمقامهم ، وسقانا من منالهم ، آمين . وقوله : { ربنا ما خلقت هذا باطلاً } بل هو ثابت بإثباتك ، مَمْحُوٍّ بأحدية ذاتك ، فالباطل محال ، وكل ما سواه باطل ، كما قرره الرسول - عليه الصلاة والسلام . وقوله : { ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا } أي : كنا في الرعيل الأول من أهل الإيمان ، فجعل لنا سبيلاً إلى مقام الإحسان ، { ربنا وآتنا ما وعدتنا } وهو الوصول إلى العيان . وبالله التوفيق .