Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 7-9)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { منه } : خبر مقدم ، و { آيات } : مبتدأ ، فيوقف على { الكتاب } ، وقيل : { منه } : نعت لكتاب ، وهو بعيد . قال البن السبكي : المحكَم : المتضح المعنى ، والمتشابه : ما استأثر الله بعلمه ، وقد يُطْلعُ عليه بعضَ أصفيائه . و { هن أم الكتاب } : جملة ، وحق الخبر المطابقة فيقول : أمهات ، وإنما أفرده على تأويل كل واحد ، أو على أن الكل بمنزلة آية واحدة . والزيغ : الميل عن الحق . و { الراسخون في العلم } : معطوف على { الله } ، أو مبتدأ إن فسر المتشابه بما استأثر الله بعلمه ، كمدة بقاء الدنيا ووقت قيام الساعة ، أو بما دلّ القاطع على أن ظاهره غير مراد . قاله البيضاوي . و { إذ هديتنا } : ظرف مجرور بالإضافة مسبوك بالمصدر ، أي : بعد هدايتك إيانا . يقول الحقّ جلّ جلاله : إن الذي انفرد بالوحدانية والقيومية ، ولا يخفى عليه شيء في العالم العلوي والسفلي { هو الذي أنزل عليك الكتاب } المبين ، فمنه ما هو { آيات محكمات } واضحات المعنى ، لا اشتباه فيها ولا إجمال ، { هن أم الكتاب } أي : أصله ، يُرد إليها غيرها ، { و } منه آيات { أُخَر متشابهات } أي : محتملات ، لا يتضح مقصودها لإجماله أو مخالفة ظاهر إلا بالفحص وجودة الفكر ، ليظهر فضل العلماء النُقاد ، ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تَدبُرها وتحصيل العلوم المتوقف عليها استنباط المراد بها ، فينال بها ، وبإتعاب القرائح في استخراج معانيها ، والتوفيق بينها وبين المحكمات ، أعلى الدرجات وأرفع المقامات . قال في نوادر الأصول : لمّا تكلم على المتشابه قسّمه على قسمين منه ما طوى علمه إلاَّ على الخواص كعلم فواتح السور ، ومنه ما لم يصل إليه أحد من الرسل فمَنْ دُونَهم ، وهو سر القدر لا يستقيم لهم مع العبودية ، ولو كُشِفَ لفسدت العبودية ، فطواه عن الرّسل والملائكة لأنهم في العبودية ، فإذا زالت العبودية احتمولها أي : أسرار القدر . هـ . ولمثل هذا يشير قول سهل : للألوهية سر - لو انكشف لبطلت النبوة ، وللنبوة سر - لو انكشف لبطل العلم ، وللعلم سر لو انكشف لبطلت الأحكام . هـ . قلت : فَتَحَصَّل أن الكتاب العزيز مشتمل على المحكم والمتشابه . وأما قوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ ءَايَاتُهُ } [ هُود : 1 ] فمعناه : أنها حُفظت من فساد المعنى وركاكة اللفظ ، وقوله تعالى : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً } [ الزُّمَر : 23 ] معناه : أنه يشبه بعضه بعضاً في صحة المعنى وجزالة اللفظ . ثم إن الناس في شأن المتشابه على قسمين : { فأما الذين في قلوبهم زيغ } : أي : شك ، أو ميل عن الحق ، كالمبتدعة وأشباههم ، { فيتبعون ما تشابه منه } ، فيتعلقون بظاهره ، أو بتأويل باطل ، { ابتغاء الفتنة } أي : طلباً لفتنة الناس عن دينهم : بالتشكيك والتلبيس ، ومناقضة المحكم بالمتشابه ، { وابتغاء تأويله } على ما يشتهون ليوافق بدعتهم . رُوِيَ عن عائشة - رضي الله عنها - : أن النبيّ صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية فقال : " إِذَا رَأَيتُم الذِينَ يَسألُون عن المتشابه منه ، ويجادلون فيه ، فهم الذين عَنَا الله تعالى ، فاحذروهم ، ولا تجالسوهم " . { وما يعلم تأويله } على الحقيقة { إلا الله } تعالى ، وقد يُطلع عليه بعضَ خواص أوليائه ، وهم { الراسخون } أي : الثابتون في العلم ، وهم العارفون بالله أهل الفناء والبقاء ، وهم أهل التوحيد الخاص … فقد أطلعهم تعالى على أسرار غيبه ، فلم يبق عندهم متشابه في الكتاب ولا في السنة ، حال كونهم { يقولون آمنا به } ، وصدقنا أنه من كلامه ، { كُلّ من عند ربنا } المحكم والمتشابه ، وقد فهمنا مراده في القسمين ، وهم أولو الألباب ، ولذلك مدحهم فقال : { وما يَذَكَّرَ إلا أُولوا الألباب } أي : القلوب الصافية من ظلمة الهوى وغَبَش الحس . سُئل عليه الصلاة والسلام : مَن الراسخون في العلم ؟ فقال : " من برَّ يمينُه ، وصدق لسانُه ، واستقام قلبُه ، وعفَّ بطنُه وفرجه ، فذلك الراسخ في العلم " وقال نافع بن يزيد : الراسخون في العلم : المتواضعون لله ، المتذللون في طلب مرضات الله ، لا يتعظمون على مَنْ فوقهم ، ولا يحقرون من دونهم . هـ . وقيل : الراسخ في العلم : من وجُد فيه أربعة أشياء : التقوى بينه وبين الله ، والتواضع بينه وبين الخلق ، والزهد بينه وبين الدنيا ، والمجاهدة بينه وبين نفسه . هـ . قلت : ويجمع هذ الأوصاف العارف بالله ، فهو الراسخ في العلم كما تقدم . ويقولون أيضاً في تضرعهم إلى الله : { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن نهج الحق بالميل إلى اتباع الهوى ، { بعد إذ هديتنا } إلى طريق الوصول إلى حضرتك ، { وهب لنا من لدنك رحمة } تجمع قلوبنا بك ، وتضم أرواحنا إلى مشاهدة وحدانيتك ، { إنك أنت الوهاب } تهب للمؤمل فوق ما يؤمل . { ربنا إنك جامع الناس ليوم } الجزاء الذي { لا ريب فيه } ، فاجمعنا مع المقربين إنك { لا تخلف المعياد } فأنجز لنا ما وعدتنا في ذلك اليوم . وخلف الوعد في حقه تعالى محال . أما الوعد بالخير فلا إشكال ، وأما الوعيد بالشر ، فإن كان في مُعَيِّنٍ فلا يخلفه ، وإن كان في الجملة فيخلفه بالعفو . والله تعالى أعلم . وقال في النوادر أيضاً : لَمَّا رَدَّ الراسخون في العلم عِلْمَ المتشابه إلى عالمه ، حيث قالوا : { آمنا به كل من عند ربنا } ، خافوا شَرَه النفوس لطلبها فإنَّ العلم لذيذ ، وفتنة تلك اللذة لها عتاب ، ففزعوا إلى ربهم فقالوا : { ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة } ، علموا أن الرحمة تطفئ تلك الفتنة . ولما كان يوم القيامة ينكشف فيه سر القدر حنوا إليه فقالوا : { ربنا إنك جامع الناس … } الآية . سكنوا نفوسهم لمجيء ذلك اليوم الذي تَبْطُنِ فيه الحكمة ، وتظهر فيه القدرة . هـ . بالمعنى . الإشارة : إذ صفت القلوب ، وسكنت في حضرة علام الغيوب ، تنزلت عليها الواردات الإلهية والعلوم اللدنية ، والمواهب القدسية ، فمنها ما تكون محكمات المبنى ، واضحة المعنى ، ومنها ما تكون مجملة في حال ورودها ، وبعد الوعي يكون البيان ، { فَإْذَا قَرَأْنَاهُ فَاْتَّبِعْ قُرْءَانَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 18 ، 19 ] . وقد تكون خارجة عن مدارك العقول . فأما أهل الزيغ والانتقاد فيتعبون المتشابه من تلك الواردات ، ابتغاء فتنة العامة ، وصرفهم عن طريق الخاصة ، وابتغاء تأويله ، ليقيم عليه حجة الشريعة ، { وما يعلم تأويله إلا الله } ، أو من تحقق فناؤه في الله ، وهم الراسخون في معرفة الله ، يقولون : { آمنا به كل من عند ربنا } إذ القلوب المطهرة من الهوى لا نطق عن الهوى ، وهم أرباب القلوب يقولون : { ربنا لا تزغ قلوبنا } عن حضرة قدسك { بعد إذ هديتنا } إلى الوصول إليها ، { وهب لنا من لدنك رحمة } تعصمنا من النظر إلى سواك ، { إنك أنت الوهاب } . ربنا إنك جامع الناس . وهم السائرون إليك ليوم لا ريب في الوصول إليه ، وهو يوم اللقاء ، { إنك لا تخلف الميعاد } فاجمع بيننا وبينك ، وحل بيننا وبين من يقطعنا عنك { إنك على كل شيء قدير } .