Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 3, Ayat: 92-92)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : البرّ : كمال الطاعة . يقول الحقّ جلّ جلاله : { لن تنالوا } كمال الطاعة والتقرب { حتى تنفقوا مما تحبون } ، أو : لن تنالوا برَّ الله الذي هو الرضى والرضوان ، { حتى تنفقوا } بعض ما { تحبون } من المال وغيره ، كبذل الجاه في معاونة الناس ، إن صحبه الإخلاص ، وكبذل البدن في طاعة الله ، وبذلك المهج في سبيل الله . ولمّا نزلت الآية جاء أبو طلحة فقال : يا رسول الله ، إن أحب أموالي إِليَّ بَيْرُحاء - وهو بستان كان خلف المسجد النبوي - وهو صدقة لله ، أرجوا برّها وذخرها ، فقال له - عليه الصلاة والسلام - " بَخٍ بَخٍ ذَلَكَ مَالٌ رَابحٌ - أو رائح - وَإِنِّي أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا في الأَقْرَبينَ " فقسمها أبو طلحة في أقاربة . وجاء زيدٌ بنُ حَارِثَةَ بفرسٍ كان يُحبها ، فقال : هذه في سبيل الله ، فحمل عليها رسولُ الله أسامة ولده ، فقال زيد : إنما أردت أن أتصدق بها ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ اللَّهَ تعالى قَدْ قَبِلَهَا " فدلّ ذلك على أن الصدقة على الأقارب أفضل . وأعتقت امرأةٌ جارية لا تملك غيرها ، كانت تحبها ، واشترطت عليها أن تقيم معها ، فلما عُتِقَتْ ، ذهبت ، فقال لها عليه الصلاة والسلام : " دعيها فقد حجَبْتِك عن النار " . وأمر عمر بن الخطاب بشراء جارية من سبي العراق ، فلما جيء بها ، ورآها عمرُ أعجبْته غايةً ، فقال : إن الله تعالى يقول : { لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون } ، فأعتقها . وذكر ابن عمر هذه الآية ، فلم يجد عنده أحبَّ من جارية كانت عنده ، يطؤها فأعتقها ، وقال : لولا أني لا أعود في شيء جعلته لله لنكحتها . وكان الربيع يعطي للسائل إذا وقف في بابه السكر ، فإذا قيل له في ذلك ، قال : إن الربيع يحب السكر . ثم إن الله - تعالى - يقبل الصدقة من المحبوب أو غيره ، ولذلك قال : { وما تنفقوا من شيء فإن الله به عليم } فيجازيكم بحسبه . الإشارة : ليس للفقير شيء أحبُّ من نفسه التي بين جنبيه ، بل عند جميع الناس ، فمن بذل روحه في مرضاة الله نال رضوان الله ومعرفته ، وهو غاية البر ، فمن أذل نفسه لله أعزه الله ، ومن أفقر نفسه لله أغناه الله ، من تواضع لله رفع ، فبذل النفس لله هو تقديمها لشيخ التربية يفعل بها ما يشاء ، فكل ما يشير به إليه بادر إليه بلا تردد ، فمن فعل ذلك فقد نال غاية البر ، وأنفق غاية ما يُحب ، وكل من بذل نفسه بذل غيرها بالأحرى ، إذ ليس أعز منها ، وفي ذلك يقول ابن الفارض رضي الله عنه : @ مَا لِي سِوَى رُوحِي ، وباذل نَفْسه في حُبّ من يَهْوَاهُ ليس بُمُسْرِفِ فَلَئِنْ رَضِيتَ بها فقد أسْعَفْتَني يا خَيْبَةَ الْمَسْعَى إذا لم تُسْعِفِ @@ وقال الشيخ أبو عبد الله القرشي : حقيقة المحبة أن تهب كُلَّكَ لمن أحببته ، حتى لا يبقى لك منك شيء . هـ . وقال الجنيد رضي الله عنه : لن تناولا محبة الله حتى تسخُوا بأنفسكم لله . هـ . ولما قال عليه الصلاة والسلام لليهود : " أنا على ملة إبراهيم " - كما تقدم - قالوا : كيف تكون على ملة إبراهيم ، وأنت تأكل لحوم الإبل وإلبانها ؟ ، وكان ذلك حراماً على إبراهيم .