Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 30, Ayat: 1-7)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : بعد التسمية { الـۤـم } أي : أيها المصطفى ، أو : المرسل ، { غُلبت الرومُ } أي غلبت فارسُ الرومَ { في أدنى الأرض } أي : في أقرب أرض العرب لأن الأرض المعهودة عند العرب أرضهم ، أي : غلبوا في أدنى أرض العرب منهم ، وهي أطراف الشام . أو أراد أرضهم على إنابة اللام مناب المضاف إليه أي : في أدنى أرضهم إلى عدوّهم . قال ابن عطية : قرأ الجمهور : " غُلبت " بضم الغين . وقالوا : معنى الآية : أنه بلغ أهل مكة أن الملك كسرى هزَم جيشَ الروم بأذرعاتِ ، وهي أدنى أرض الروم إلى مكة ، فسُر لذلك كفارُ قريش ، فبشر المؤمنين بأن الروم سيغلبون . هـ . وهذا معنى قوله : { وهم } أي : الروم { من بعد غَلَبِهم } ، وقرئ : بسكون اللام كالحلَب والحلْب ، وهو من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي : وهم من بعد غلبة فارس إياهم { سيَغْلِبون } فارس ، وتكون الدولة لهم . وذلك { في بِِضْعِ سنين } ، وهو ما بين الثلاث إلى العشر . قال النسفي : قيل : احتربت الروم وفارس ، بين أذرعاتِ وبُصرى ، فغلبت فارسُ الروم ، والمَلِكُ بفارس ، يومئذٍ ، كسرى " أبرويز " ، فبلغ الخبر مكة ، فشقَّ ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لأنَّ فارسَ مجوسٌ لا كتاب لهم ، والروم أهل كتاب ، وفرح المشركون وشمتوا ، وقالوا : أنتم والنصارى أهل الكتاب ، ونحن فارس أُمِّيُّون ، وقد ظهر إخواننا على إخوانكم ، ولنظهرنَّ نحن عليكم فنزلت الآية . فقال أبو بكر : والله ليَظْهَرَنَّ الروم على فارس بعد بضع سنين ، فقال له أُبَيُّ بنُ خلف : كذبت ، فناحبه - أي : قامره - على عشر قلائص من كل واحد منهما ، وجعل ثلالث سنين ، فأخبر أبو بكر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، فقال - عليه الصلاة والسلام - : " زِدْ في الخطر وأبعد في الأجل " ، فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين ومات أبيّ من جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أحد وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية ، أو : يوم بدر ، فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أُبَيَّ ، فقال عليه الصلاة والسلام - : " تصدَّقْ به " . وهذه آية بينة على صحة نبوته ، وأن القرآن من عند الله لأنها إنباء عن علم الغيب . وكان ذلك قبل تحريم القمار ، عن قتادة . ومذهب ابي حنيفة ومحمد - رضي الله عنهما - : أن العقود الفاسدة كعقد الربا وغيره ، جائز في دار الحرب بين المسلمين والكفار ، واحتجا بهذه القصة . هـ . زاد البيضاوي : وأجيب بأنه كان قبل تحريم القمار . هـ وقرئ : " غلبت " بالفتح ، " وسيُغلبون " بالضم ، ومعناه : أن الروم غَلَبُوا على ريف الشام ، وسيغلبهم المسلمون ، وقد غزاهم المسلمون في السنة التاسعة من نزولها ، وفتحوا بعض بلادهم ، وعلى هذا يكون إضافة الغلَب إلى الفاعل . { لله الأمرُ من قبلُ ومن بعد } أي : من قبل كل شيء ، ومن بعد كل شيء . أو : من قبل الغلبة وبعدها ، كأنه قيل : من قبل كونهم غالبين - وقبله : وهو وقت كونهم مغلوبين - ومن بعد كونهم مغلوبين - وهو وقت كونهم غالبين ، يعني : أن كونهم مغلوبين أولاًُ ، وغالبين آخراً ، ليس إلا بأمر الله وقضائه . { وَتِلْكَ ٱلأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [ آل عمران : 140 ] . { ويومئذٍ } أي : ويوم تغلب الرومُ فارسَ ، ويحل ما وعده الله من غلبتهم ، { يفرح المؤمنون بنصر الله } ، وتغلب من له كتاب على مَن لا كتاب له ، وغيظ من شمت بهم من أهل مكة . وقيل : نصر الله : هو إظهار صدق المؤمنين ، بما أخبروا به المشركين من غلبة الروم . { ينصُر من يشاء } فينصر هؤلاء تارة وهؤلاء أخرى ، { وهو العزيزُ } : الغالب على أعدائه { الرحيمُ } : العاطف على أوليائه . { وَعْدَ اللهِ } اي : وعد ذلك وعداً ، فسينجزه لا محالة ، فهو مصدر مؤكّد لِمَا قبله لأن قوله : { سيغلبون } وعد ، { لا يُخْلِفَ الله وعْدَه } لامتناع الكذب عليه تعالى ، فلا بد من نصر الروم على فارس . { ولكنَّ أكثرَ الناسِ لا يعلمون } صحة وعده ، وأنه لا يُخلف ، أو : لا يعلمون أن الأمور كلها بيد الله لجهلهم وعدم تفكرهم . وإنما { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } ما يشاهدونه منها من التمتع بزخارفها . وفيه دليل أن للدنيا ظاهراً وباطناً ، فظاهرها : ما يعرفه الجهّال من التمتع بزخارفها . قال بعض الحكماء : إن كنت من أهل الاستبصار فألق ناظرك عن زخارف هذه الدار ، فإنها مجمع الأكدار ، ومنبع المضار ، وسجن الإبرار ، ومجلس الأشرار ، الدنيا كالحية ، تجمع سموم نوائبها ، وتفرغه في صميم قلوب أبنائها . هـ . وباطنها : أنها مجازٌ إلى الآخرة ، يتزودون منها إليها بالأعمال الصالحة وتحقيق المعرفة . وتنكير ظاهِراً : مُفيدٌ أنهم لا يعلمون إلا ظاهراً واحداً من جملة ظواهرها . { وهم عن الآخرة هم غافلون } لا تخطر ببالهم ، ولا يتفكرون في أهوالها ونوائبها . فهم ، الثانية : مبتدأ ، وغافلون : خبره ، والجملة : خبرالأولى ، وفيه تنبيه أنهم معدن الغفلة ومقرّها . والله تعالى أعلم . الإشارة : كما تقع الدولة بين الأشباح ، تقع بين النفوس والأرواح . فتارة تغلب النفوس بظلماتها على الأرواح ، فتحجبها عن الله ، وتارة تغلب الأرواح بأنوارها على النفوس ، فتستر ظلمة حظوظها ، ويرتفع الحجاب بين الله وعبده . آلم . غُلبت أنوار الأرواح بظلمة كثائف النفوس في أدنى أرض العبودية وهم من بعد غلبهم سيغلبون فتغلب أنوار الأرواح المطهرة ، على ظلمة نفوس الظلمانية ، وذلك في بضع سنين ، مدة المجاهدة ، والبُضع : من ثلاث إلى عشر ، على قدر الجد والاجتهاد ، وعلى قدر تفاوت النفوس والطبع ، فمنهم من يظفر بنفسه في مدة يسيره ، ومنهم من يظفر بعد مدة طويلة . لله الأمرُ من قبلُ ومن بعدُ ، ويومئذٍ يفرح المؤمنون السائرون بنصر الله ، حيث نصرهم على نفوسهم ، فظفروا بها . ينصر من شاء حيث يشاء وهو العزيز الرحيم . قال بعضهم : انتهى سير السائرين إلى الظفر بنفوسهم ، فإن ظفروا بها وصلوا . هـ . وقال الورتجبي : قوله : { غُلبت الروم … } الآية ، إشارة إلى أن الأرواح ، وإن كانت مغلوبة من النفوس الأمارة ، والشياطين الكافرة امتحاناً من الله ، وتربيةً لها بمباشرة القهريات ، فإنها تغلب على النفوس ، من حيث تخرج من مقام الاختيار . انظر تمامه . وقال القشيري : قوله تعالى : { يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا } : استغراقُهم في الاشتغال بالدنيا ، وانهماكهم بما مَنَعهم عن العلم بالآخرة وقيمة كل امرىءٍ عِلمُه كما في الأثر عن عليّ رضي الله عنه . قال : @ وَقِيمَةُ كُلِّ امْرِىءٍ مَا كَانَ يُتْقِنُهُ والجاهلون لأهلِ العِلْمِ أعداءُ @@ فأهل الدنيا في غفلة عن الآخرة ، والمشتغلون بعلم الآخرة ، هم بوجودها ، في غفلة عن الله . هـ . قلت : وأهل المعرفة بالله لم يشغلهم عنه دنيا ولا آخرة . والله تعالى أعلم . ثم أمر بالتفكر ، فقال : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ فِيۤ أَنفُسِهِمْ … }