Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 30, Ayat: 30-32)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : حنيفاً : حال من الدين ، أو : من المأمور ، وهو ضمير أقم ، وفطرة : منصوب على الإغراء . يقول الحق جل جلاله : لنبيه صلى الله عليه وسلم ، أو : لكل سامع : { فأَقِمْ وَجْهَكَ للدين } أي : قوّم وجهك له ، غَيْرَ مُلْتَفِتٍ عنه يميناً ولا شمالاً . وهو تمثيلٌ لإقباله على الدين بكُلِّيته ، واستقامته عليه ، واهتمامه بأسبابه فإنَّ من اهتم بالشيء توجه إليه بوجهه ، وسدّد إليه نظره ، { حنيفاً } أي : مائلاً عن كل ما سواه من الأديان ، { فِطْرَتَ الله } أي : الزموا فطرة الله . والفطرة : الخلقة : أَلاَ ترى إلى قوله : { لا تبديلَ لخلقِ الله } ؟ فالأرواح ، حين تركيبها في الأشباح ، كانت قابلة للتوحيد ، مُهَيَّأَةً له ، بل عالمة به ، بدليل إقرارها به في عالم الذر ، حتى لو تُركوا لَما اخْتَارُوا عليه ديناً آخر ، ومَن غوى فإنما غوى منهم بإغواء شياطين الإنس والجن . وفي حديث قدسي : " كُلٌّ عِبَادي خَلَقْتُ حنيفاً ، فاجتالتَهُمْ الشّيَاطِينُ عنْ دِينهمْ ، وأمَرُوهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي غيري " وفي الصحيح : " كُلُّ مولود يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنصِّرانِهِ أو يُمجِّسَانِهِ " قال الزجّاج : معناه : أن الله تعالى فطر الخلق على الإيمان به ، على ما جاء في الحديث : " إن الله عز وجل أخرج من صلب آدم ذريته كالذرّ ، وأشهدهم على أنفسهم بأنه خالقهم ، فقالوا : بلى " ، وكل مولود فهو من تلك الذرية التي شهدت بأن الله تعالى رَبُّهَا وخالقها . هـ . قال ابن عطية : الذي يعتمد عليه في تفسير هذه اللفظة : أنها الخِلقة والهيئة في نفس الطفل ، التي هي مهيئة لمعرفة الله والإيمان به ، الذي على الإعداد له فطرَ البشر ، لكن تعرض لهم العوارض على حسب ما جرى به القدر ، ولا يلزم من الإعداد وجعله على حالة قابلة للتوحيد ألا يساعده القدر ، كما في قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ ٱلْجِنَّ وَٱلإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، أي : خلقهم معَدين لذلك ، فأمر من ساعده القدر ، وصرف عن ذلك من لم يُوفق لما خلق له . هـ . فقوله في الحديث : " كُلُّ مَولُودٍ يُولَدُ عَلَى الفِطْرَةِ " أي : على القابلية والصلاحية للتوحيد ، ثم منهم من يتمحض لذلك ، كما سبق في القدر ، ومنهم من لم يوفق لذلك ، بل يخذل ويُصرف عنه لما سبق عليه من الشقاء . وقال في المشارق : أي : يخلق سالماً من الكفر ، متهيئاً لقبول الصلاح والهدى ، ثم أبواه يحملانه ، بَعْدُ ، على ما سَبق له في الكتاب . هـ . قال ابن عطية : وذِكْرُ الأبوين إنما هو مثال للعوارض التي هي كثيرة . ثم قال : وقد فطر الله الخلق على الاعتراف بربوبيته ، ومن لازم ذلك توحيده ، وإن لم يُوَفِّقُوا لذلك كُلُّهم ، بل وَحِّدَه بعضُهم ، وأشرك بعضهم ، مع اتفاق الكل على ربوبيته ضَرُورَة أن الكلَّ يشعر بقاهر له مدبر . قال في الحاشية : والحاصل : أنه تعالى فطر الكل في ابتداء النشأة ، على الاعتراف بربوبيته ، ولكن كتب منهم السعداء موحدين ، وكتب الأشقياء مشركين ، مع اعتراف الجميع بربوبيته ، ولم يوفق الأشقياء لكون الربوبية تستلزم الوحدانية ، فأشركوا ، فناقضوا لازم قولهم . هـ . وهذا معنى قوله تعالى : { التي فَطَرَ الناسَ عليها } ، أي : خلقهم في أصل نشأتم عليها ، { لا تبديل لخلق الله } أي : ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تُغير . وقال الزجاج : معناه : لا تبديل لدين الله ، ويدل على قوله : { ذلك الدين القيم } أي : المستقيم ، { ولكن أكثر الناسِ لا يعلمون } حقيقة ذلك . حال كونكم . { مُنيبين إليه } أي : راجعين إليه ، فهو حال من ضمير : الزموا . وقوله : { واتقوه وأقيموا الصلاة } : عطف على الزموا . أو : على فأقم لأن الأمر له - عليه الصلاة والسلام - أمرٌ لأمته ، فكأنه قال : فأقيموا وجوهكم ، منيبين إليه ، { واتقوه } أي : خافوا عقوبته ، { وأقيموا الصلاة } أي : أَتْقِنُوهَا وأدّوها في وقتها ، { ولا تكونوا من المشركين } ممن يشرك به غيره في العبادة . { من الذين فرقوا دينهم } : بدل من " المشركين " بإعادة الجار ، أي : لا تكونوا من الذين جعلوا دينهم أدياناً مختلفة باختلاف ما يعبدونه لاختلاف أهوائهم . وقرأ الأَخَوَان : فارقوا أي : تركوا دين الإسلام الذي أُمروا به ، { وكانوا شِيَعاً } أي : فرقاً ، كل فرقة تشايع إمامها الذي أضلها ، أي : تشيعه ، وتقوي سواده ، { كل حزب } منهم { بما لديهم فرحون } مسرورون ، ظناً بأنه الحق ، ثُم يبدوا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون . والعياذ بالله . الإشارة : الفطرة التي فَطَر الله الأرواحَ عليها في معرفة العيان ، لأنها كلها كانت عارفة بالله ، لصفائها ولطافتها ، فما عاقها عن تلك المعرفة إلا كَثَافَةُ الأبدان ، والاشتغالُ بحظوظها وهواها ، حتى نسيت تلك المعرفة . وفي ذلك يقول ابن البنا في مباحثه : @ وَلَـمْ تَـزَلْ كُـلُّ نُفُـوسٍ الأَحْيَـا لأمَــةً دَرَّاكَـةً لــلأَشْيَـا وَإِنَّمَــا تَعُــوقُهَـا الأَبْــدَانُ وَالأَنْـفُـسُ النُّــزَّعُ وَالشَّيْـطَــانُ فَكُـلُّ مَـنْ أذاقهــم جِهَــادَهْ أَظْـهَــرَ لِلْقَـاعِــدِ خَــرْقَ الْعَــادَهْ @@ قال بعضهم : إنما حجب الله عنها تلك العلوم غيرة أن تكشف سر الربوبية ، فيظهر لغير أهله ، قال القشيري : { فأَقِمْ وجْهَك } أي : أَخِلْصْ قَصْدَك إلى الله ، واحفَظْ عهدك معه ، وأَفْرِدْ عملك ، في سكناتِك وحركاتك وجميع تصرفاتِك ، له . { حنيفاً } أي : مستقيماً في دينه ، مائلاً عن غيره ، مُعْرِضاً عن سواه . والزَمْ فطرةَ الله التي فطر الناسَ عليها ، ثم ذكر ما تقدم لنا . ثم قال : { منيبين إليه } راجعين إلى الله بالكلية ، من غير أن تبقى بقية ، متصفين بوفائه ، منحرفين بكل وجهٍ عن خلافه ، مُتَّقينٍ صغير الإثم وكبيره ، وقليله وكثيره ، مقيمين الصلاة بأركانها وسننها وآدابها جهراً ، متحققين بمرعاة فضلها سِراً . وقال في قوله تعالى : { من الذين فَرَّقوا دينهم } : أقاموا في دنياهم في دار الغفلة ، وعناد الجهل والفترة ، فركنوا إلى ظنونهم ، واستوطنوا مركب أوهامهم ، وثَمِلُوا بِسُكْرِ غَيِّهِمْ ، وظنوا أنهم على شيء ، فإذا انكشف ضبابُ وقتهم ، وانقشع سحابُ هجرهم ، انقلب فرحُهم تَرَحاً ، واستيقنوا أنهم كانوا في ضلالة ، ولم يعرجوا إلا في أوطان الجهالة . هـ . ثم ذكر حال أهل الغفلة ، فقال : { وَإِذَا مَسَّ ٱلنَّاسَ … }