Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 31, Ayat: 22-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : قال في الحاشية : لّمَّا ذكر حال الكافر المجادل ذكر حال المسلم ، وعدّاه هنا بإلى ، وفي قوله : { بَلَىٰ مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ } [ البقرة : 112 ] ، باللام لأنه لَمَّا كان المجادل غير مُعين ، ولم يخص له واحداً بعينه ، عقَّبه بحال من حصل منه مطلق الاستسلام ، ومَدْحُهُ يتناول مَدْحَ مَنِ اتصف بأخص الاستسلام . أو : في الآية الأخرى أتى به خاصاً ، لما رتب عليه من الثواب الجزيل بقوله : { فله أجره … } إلخ ، الذي لم يذكر هنا إلا بعضه ، فإن اللام تقتضي الاختصاص والقصد إلى الشيء ، و " إلى " : لا تقتضي ذلك . انظر ابن عرفة . وقال النسفي : عدّاه هنا بإلى وهناك باللام لأن معناه ، مع اللام : أنه جعل وجهه - وهو ذاته ونفسه - سالماً لله ، أي : خالصاً له ، ومعناه ، مع " إلى " : أنه سلّم نفسه كما يُسلم المتاع إلى الرجل ، إذا دفع إليه . والمراد : التوكل عليه والتفويض إليه . هـ . أي : فهو أبلغ من اللام ، ومثله البيضاوي . يقول الحق جل جلاله : { ومن يُسْلِمْ وَجْهَه إلى الله } أي : ينقد إليه بكليته ، وينقطع إليه بجميع شراشره ، بأن فوض أمره إليه ، وأقبل بكُلِّيَّتِهِ عليه ، { وهو محسن } في أعماله . قال القشيري : من أَسْلَمَ نَفْسُه ، وأخلص في الله قَصْدَهُ ، فقد استمسك بالعروة الوثقى . هـ . فالاستسلام قد يكون بغير إخلاص ، فلذلك قال : { وهو محسن } . قاله المحشي . وقلت : وفيه نظر فإن الحق تعالى إنما عبَّر بالإسلام لا بالاستسلام ، وإنما المعنى : أسلم وجهه في الباطن ، وهو محسن بالعمل في الظاهر ، { فقد استمسك بالعُرْوَةِ الوُثْقَى } ، أي : تعلق بأوثق ما يتعلق به فالعروة : ما يستمسك به . والوثقى : تأنيث الأوثق . مثّلَ حال المسلم المتوكل بحال من أراد أن يَتَدَلَّى من شاهق جبل ، فاحتاط لنفسه ، بأن استمسك بأوثق عروة من حبل متين ، مأمونٍ انقطاعُهُ . قال الهروي : أي : تمسك بالعقد الوثيق . وقال الأزهري : أصله : من عروة الكلأ ، وهو : ماله أصل ثابت في الأرض ، من الشيح وغيره من الشجر المستأصل في الأرض . ضُربَتْ مثلاً لكل ما يُعْتَصَمُ به ويُلْجأُ إليه . هـ . وهو إشارة لكون التوحيد سبباً وأصلاً ، والآخِذُ به ، مُّتصلاً بالله ، لا يخشى انقطاعاً ولا هلاكاً ، بخلاف الشرك ، فإنه على الضد ، كما يرشد إليه قوله تعالى : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ … } [ إبراهيم : 26 ] الآية . وقوله تعالى : { وَمَن يُشْرِكْ بِٱللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ ٱلسَّمَآءِ } [ الحج : 31 ] الآية . { وإلى الله عاقبة الامور } أي : صائرة إليه فيُجازى عليها . { ومن كَفَرَ } ولم يسلم وجهه لله ، { فلا يَحْزُنك كُفْرُه } فلا يهمك شأنه ، فَسَيَقْدِمُ علينا ونجازيه ، { إلينا مرجعُهم فننبئهم بما عملوا } ، أي : فنعاقبهم على أعمالهم ، { إن الله عليم بذات الصور } ، أي : عالم بحقائق الصدور ، وما فيها ، فيجازى على حسبها ، فضلاً عما في الظواهر ، { نُمتعهم قليلاً } ، أي : نمتعهم زماناً قليلاً بدنياهم ، { ثم نضطرهم } ، نلجئهم { إلى عذابٍ غليظٍ } شديد . شبَّه إلزامهم التعذيب ، وإرهاقهم إليه ، باضطرار المضطر إلى الشيء . والغِلظ : مستعار من الأجرام الغليظة ، والمراد : الشدة والثَّقَلُ على المُعَذِّبِ . عائذاً بالله من موجبات غضبه . الإشارة : ومن يَنْقَدْ بكليته إلى مولاه ، وغاب عن كل ما سواه ، وهو من أهل مقام الإحسان ، بأن أشرقت عليه شمس العيان ، فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها أبداً . ومن أمارات الانقياد : ترك التدبير والاختيار ، والرضا والتسليم لكل ما يبرز من عنصر الاقتدار ، وترك الشكوى بأحكام الواحد القهار . { وإلى الله عاقبة الأمور } فيوصل من يشاء برحمته ، ويقطع من يشاء بعدله . ومن يجحد طريق الخصوص من أهل زمانه فلا يحزنك ، أيها العارف ، فعله ، إلينا إيابهم ، وعلينا حسابهم ، فَسَنُمَتَّعهُمْ بحظوظهم ، والوقوف مع عوائدهم ، زماناً قليلاً ، ثم نضطرهم إلى غم الحجاب وسوء الحساب . والعياذ بالله . ثم برهن على توحيد من يجب الاستسلام له ، فقال : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ … }