Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 31, Ayat: 6-7)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جل جلاله : { ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث } أي : ما يلهى به عما يقرب إلى الله كالأحاديث التي لا أصل لها ، والخرافات التي لا حقيقة لها ، والمضاحك ، وفضول الكلام . قيل : نزلت في النَّضر بن الحارث ، كان يخرج إلى فارس للتجارة ، فيشتري أخبار الأعاجم ، ثم يُحدث قريشاً بها ، ويقول : إن محمداً يُحدثكم بأخبار عاد وثمود ، وأنا أحدثكم بحديث رُسْتُم ، وأخبار الأكاسرة ، فيستملحُون حديثه ولا يسمعون القرآن . وقيل : كان يشتري القيان ، ويحملهن على معاشرة من أراد الإسلام ليصده عنه . والإشتراء من الشراء ، كما تقدم عن النضر ، ومن البدل ، كقوله : { ٱشْتَرَوُاْ ٱلْكُفْرَ بِٱلإِيمَانِ } [ آل عمران : 177 ] . استبدلوه واختاروه ، أي : يختار حديث الباطل على حديث الحق . وإضافة اللهو إلى الحديث ، للتبيين بمعنى " من " لأن اللهو يكون من الحديث ومن غيره ، فيبين بالحديث ، والمراد بالحديث : الحديث المكروه ، كما جاء في الحديث : " الحديث في المسجد يأكل الحسنات ، كما تأكل البهيمة الحشيش " ، أو : للتبعيض ، كأنه قيل : ومن الناس من يشتري بعض الحديث الذي فيه اللهو . وقال مجاهد : يعني : شراء المغنيات والمغنيين ، أي : يشتري ذات لهو ، أو ذا لهو الحديث . وقال أبو أمامة : قال عليه الصلاة والسلام : " لا يحل تعليم المغنيات ، ولا بيعهن ، وأثْمانُهنَّ حرام " وفي مثل هذا نزلت هذه الآية ، ثم قال : " وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين : أحدهما على هذا المنكب ، والآخر على هذا المنكب ، فلا يزالان يضربان بأرجلهما حتى يسكت " . قلت : هذا مقيد بِشِعْرِ الهوى لأهل الهوى ، وأما أهل الحق الذين يسمعون من الحق ، فلا يتوجه الحديث لهم ، وسيأتي في الإشارة تحقيقه إن شاء الله . ثم قال أبو أمامة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى بعثني هدى ورحمة للعالمين ، وأمرني ربي بمحو المعازف والمزامير والأوثان ، والصلب وأمر الجاهلية ، وحلف ربي بعزته لا يشرب عبد من عبيدي جرعة خمر متعمداً إلا سقيته مثلها من الصديد يوم القيامة ، مغفوراً له أو معذباً ، ولا سقاها غيره إلا فعلت به مثل ذلك ، لا يتركها عبد من مخافتي إلا سقيته من حياض القدس يوم القيامة " انظر الثعلبي . ثم قال تعالى : { ليضل عن سبيل الله } أي : فعل ذلك لِيَضل هو عن طريق الله ودينه ، أو ليُضل غيره عنه ، أو عن القرآن ، { بغير علم } أي : جهلاً منه بما عليه من الوزر . { ويتخذها } أي : السبيل { هُزُواً } وسخرية . فمن رفع : استأنف ، ومن نصب ، عطفها على ليضل ، { أولئك لهم عذاب مهين } يُهِينُهم ويخزيهم ، و " مَنْ " ، لإبهامه ، يقع على الواحد والجمع ، والمراد : النضر ومن تبعه . { وإذا تُتلى عليه آياتنا وَلَّى مُستكبراً } أعرض عن تدبرها متكبراً رافعاً نفسه عن الإصغاء إلى القرآن ، { كأن لم يَسْمَعْهَا } كأنه لم يسمعها ، ولا ذُكرت على سمعه . شبَّه حاله بحال من لم يسمعها قط ، { كأنَّ في أذنيه وقراً } ثَِقَلاً وصمماً ، { فبشره بعذابٍ أليم } أَخْبِرْه بأن العذاب يُوجعه لا محالة . وذكر البشارة على سبيل التهكم . وهذا في مقابلة مدح المحسنين المقيمين المزكين . فكما قال في المحسنين : { أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون } ، قال في هؤلاء : { أولئك لهم عذاب مهين } ، بعد أن وصفهم بالضلال والإضلال ، في مقابلة المحسنين بالهداية والفلاح . والله تعالى أعلم . الإشارة : لهو الحديث هو كل ما يشغل عن الله ، ويصد عن حضرة الله ، كائناً ما كان ، سواء كان غناء أو غيره ، وإذا كان الغناء يهيج لذكر الله ، ويحرك الروح إلى حضرة الله ، كان حقاً ، وإذا كان يحرك إلى الهوى النفساني كان باطلاً . والحاصل : أن السماع عند الصوفية ركن من أركان الطريقة ، بشروط الثلاثة : الزمان والمكان والإخوان . وقد ألف الغزالي تأليفاً في تكفير من أطلق تحريم السماع . وقال في الإحياء ، في جملة من احتج به المُحَرِّمُ للسماع : احتج بقوله تعالى : { ومن الناس من يشتري لَهْوَ الحديث } ، وقد قال ابن مسعود والنخَعي والحسن : إنه الغناء . وأجاب ما حاصله : أنه إنما يحرم إذا كان استبدالاً بالدين ، وليس كل غناء بدلاً عن الدين ، مُشْتَرَىً به ، ومضلاً عن سبيل الله ، ولو قرأ القرآن ليضل عن سبيل الله كان حراماً . كما حكي عن بعض المنافقين أنه كان يؤم الناس ولا يقرأ إلا بسورة عبس ، لما فيها من العتاب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فهَمَّ عمرُ بقتله . فالإضلال بالشعر والغناء أولى بالتحريم . هـ . وأما إن لم يكن شيء من ذلك ، فلا يحرم . وقال في القوت ، في كتاب المحبة : ولم يزل الحجازيون ، عندنا بمكة ، يسمعون السماع في أفضل أيام السنة ، وهي الأيام المعدودات ، التي أمر الله عز وجل عبادَه فيها بذكره ، أيام التشريق ، من وقت عطاء بن أبي رباح ، إلى وقتنا هذا ، ما أنكره عالم ، وكان لعطاء جاريتان تُلَحِّنانِ ، فكان إخوانه يستمعون إليهما ، ولم يزل أهل المدينة مواطئين لأهل مكة على السماع إلى زماننا هذا . وأدركنا أبا مروان القاضي ، له جوار يسمعن التلحين ، قد أعدهن للطوافين . فكان يجمعهن لهم ، ويأمرهن بالإنشاد ، وكان فاضلاً . وسئل شيخنا أبو الحسن بن سالم ، فقيل له : إنك تنكر السماع ، وقد كان الجنيد وسري السقطي وذو النون يسمعون ؟ فقال : كيف أنكر السماع وقد أجازه وسمعه من هو خير مني . هـ . وقال ابن ليون التجيبي في الإنالة : رُوي عن مصعب بن الزبير ، قال حضرت مجلس مالك ، فسأله أبو مصعب عن السماع ، فقال : ما أدري ، إلا أن أهل العلم ببلدنا لا ينكرون ذلك ، ولا يقعدون عنه ، ولا ينكره إلا غبي جاهل ، أو ناسك عراقي غليظ الطبع . قال التجيبي : وعن أنس كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، إذ نزل عليه جبريل ، فقال : يا رسول الله فقراء أمتك يدخلون الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام ، وهو نصف يوم ، ففرح فقال : أفيكم من ينشدنا ؟ فقال بدوي : نعم ، يارسول الله ، فقال : هات ، هات ، فأنشد البدوي يقول : @ قَدْ لَسَعَتْ حَيَّةُ الهَوى كَبِدِي فَلاَ طَبِيبٌ لَهُ وَلاَ رَاقِي إلاَّ الحَبِيبُ الَّذِي شُغِفْتُ بِهِ فَعِنْدَهُ رُقْيَتِي وتِرْيَا قِي @@ فتواجد عليه السلام ، وتواجد أصحابه معه ، حتى سقط رداؤه عن مَنْكِبَيْهِ ، فلما خرجوا أوى كل واحد إلى مكانه ، فقال معاوية : ما أحسن لَعِبَكُمْ يا رسول الله ! فقال : " مَهْ ، مَهْ ، يا معاوية ، ليس بكريم من لم يهتز عند ذكر الحبيب " ثم اقتسم رداءه من حضرهم بأربعمائة قطعة . وذكر المقدسي هكذا ، والسهروردي في عوارفه ، وتكلم الناس في هذا الحديث . وقد تخلف الحسن البصري ذات يوم عن أصحابه ، وسئل عن تخلفه ، فقال : كان في جيراننا سماع . وقال الشبلي : السماع ظاهره فتنة وباطنه عبرة . فمن عرف الإشارة حلَّ له سماع العبرة وإلا فقد استدعى الفتنة . هـ . والله تعالى أعلم . قوله تعالى : { وإذا تُتلى عليه … } إلخ ، هذا مثال لمن يَقبل الوعظ لقسوة قلبه وحُكم المشيئة يُبعده ، فلا يزيده كثرة الوعظ إلا نفوراً ، فسماعه كلا سماع ، ومعالجته عنىً وضياع ، كما قال القائل : @ إذَا أَنَـا عَاتبـتُ المُلـولَ فإِنَّمَـا أخُـط بأفلـك على المـاء أَحرُفَـا @@ ثم بيّن فلاح المحسنين ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ … } .