Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 33, Ayat: 72-73)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { إِنا عرضنا الأمانةَ على السماواتِ والأرضِ والجبالِ } الأمانة هنا هي التوحيد في الباطن ، والقيام بوظائف الدين في الظاهر ، من الأوامر والنواهي ، فالإيمان أمانة الباطن ، والشريعة بأنواعها كلها أمانة الظاهر ، فمَن قام بهاتين الخصلتين كان أميناً ، وإلا كان خائناً . والمعنى : إنا عرضنا هذه الأمانة على هذه الأجرام العظام ، ولها الثواب العظيم ، إن أحسنت القيام بها ، والعقاب الأليم إن خانت ، فأبتْ وأشفقتْ واستعفتْ منها ، مخافةَ ألاَّ تقدر عليها ، فطلبت السلامة ، ولا ثواب ولا عقاب . وهذا معنى قوله : { فأبَيْنَ أن يحْمِلنَها وأشفقنَ منها } فيحتمل أن يكون الإباء بإدراكٍ ، خلقه الله فيها ، وقيل : أحياها وأعقلها ، كقوله : { ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } [ فصلت : 11 ] ويحتمل أن يكون هذا العرض على أهلها من الملائكة والجن . وقال شيخ شيوخنا سيدي عبد الرحمن الفاسي : وقد يقال : الأمانة هي ما أخذ عليهم من عهد التوحيد في الغيب بعد الإشهاد لربوبيته ، وينظر لذلك قوله : " لن يسعني أرضي ولا سمائي ووسعني قلب عبدي المؤمن " وأما حملها على التكاليف فلا يختص بالآدمي لأن الجن أيضاً مكلف ، ومناسبة الآية لِمَا قبلها : أن الوفاء بها من جملة التقوى المأمور بها . هـ . وقيل : لم يقع عَرض حقيقةً ، وإنما المقصود : تعظيم شأن الطاعة ، وسماها أمانة من حيث إنها واجبة الأداء . والمعنى : أنها لعظمة شأنها لو عُرضت على هذه الأجرام العظام ، وكانت ذا شعور وإدراك ، لأبيْن أن يحمِلْنها ، وأشفقن منها ، وحملها الإنسان ، مع ضعف بنيته ، ورخاوة قوته ، لا جرم ، فإن الراعي لها ، والقائم بحقوقها ، بخير الدارين . هـ . قاله البيضاوي . والمراد بالإباية : الاستعفاء ، لا الاستكبار ، أي : أشفقن منها فعفا عنهن وأعفاهن . { وحَمَلَها الإِنسانُ } أي : آدم . قيل : فما تمّ له يوم من تحملها حتى وقع في أمر الشجرة ، وقيل : جنس الإنسان ، وهذا يناسب حملَ الأمانة على العهد الذي أخذ على الأرواح في عالم الغيب . { إِنه كان ظلوماً جهولاً } حيث تعرض لهذا الخطر الكبير ، ثم إن قام بها ورعاها حق رعايتها خرج من الظلم والجهل ، وكان صالحاً أميناً عدولاً ، وإن خانها ولم يقم بها ، كان ظلوماً جهولاً ، كلٌّ على قدر خيانته وظُلمه ، فالكفار خانوا أصل الأمانة ، وهي الإيمان فكفروا ، ومن دونهم خانوا بارتكاب المناهي أو ترك الطاعة ، فبعضهم أشد ، وبعضهم أهون ، وكل واحد عقوبته على قدر خيانته . ثم علل عرضها ، وهو : لتقوم الحجة على عباده ، فقال : { ليُعذبَ اللهُ المنافقين والمنافقاتِ والمشركينَ والمشركاتِ } حيث لم يقوموا بها ، وخانوا فيها ، فتقوم الحجة عليهم ، ولا يظلم ربك أحداً . وقال أبو حيان : اللام للصيرورة والعاقبة . وقال أبو البقاء : اللام متعلق بحَمَلَها ، وحينئذ تكون للعاقبة قطعاً . { ويتوبَ اللهُ على المؤمنين والمؤمنات } حيث حملوا الأمانة ، إلا أن العبد لا يخلو من تفريط ، قال تعالى : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } [ عبس : 23 ] وقال : { وَمَا قَدَرُواْ اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ } [ الزمر : 67 ] ولذلك قال : { وكان الله غفوراً رحيماً } فالغفران لمن لَحِقه تفريط وتقصير ، والرحمة لمَن اجتهد قدر طاقته ، كالأولياء وكبار الصالحين . والحاصل : أن العذاب لمَن تحملها أولاً ، ولم يقم بحقها ثانياً . والغفران لمَن تحملها وقام بحقها ، والرحمة لمَن تحملها ورعاها حق رعايتها . والله تعالى أعلم . الإشارة : الأمانة التي عرضها الله على السماوات والأرض والجبال هي شهود أسرار الربوبية في الباطن ، والقيام بآداب العبودية في الظاهر ، أو تقول : هي إشراق أسرار الحقائق في الباطن ، والقيام بالشرائع في الظاهر ، مع الاعتدال ، بحيث لا تغلب الحقائق على الشرائع ، ولا الشرائع على الحقائق ، فلا يغلب السُكْرُ على الصحو ، ولا الصحو على السُكْر . وهذا السر خاص بالآدمي لأنه اجتمع فيه الضدان اللطافة والكثافة ، النور والظلمة ، المعنى والحس ، القدرة والحكمة ، فهو سماوي أرضي ، رُوحاني بشري ، معنوي وحسي . ولذلك خصّه الله تعالى من بين سائر الأكوان بقوله : { خَلَقْتُ بِيَدَيَّ } [ ص : 75 ] أي : بيد القدرة والحكمة ، فكان جامعاً للضدين ، ملكياً ملكوتيًّا ، حسه حكمة ، ومعناه قدرة : وليست هذه المزية لغيره من الكائنات ، فالملائكة والجن معناهم غالب على حسهم ، فإذا أشرقت عليهم أنوار الحقائق غلب عليهم السكر والهَيَمان ، والحيوانات والجمادات حسهم غالب على معناهم ، فلا يظهر عليهم شيء من الأنوار والأَسرار . وهذا السر الذي خُصّ به الآدمي هو كامن فيه ، من حيث هو ، كان كافراً أو مؤمناً ، كما كَمُن الزبد في اللبن ، فلا يظهر إلا بعد الترتيب والضرب والمخض ، وإلا بقي فيه كامناً ، وكذلك الإنسان ، السر فيه كامن ، وهو نور الولاية الكبرى ، فإذا آمن ووحّد الله تعالى ، واهتز بذكر الله ، وضرب قلبه باسم الجلالة ، ظهر سره ، إن وجد شيخاً يُخرجه من سجن نفسه وأسر هواه . وله مثال آخر ، وهو أن كمون السر فيه ككمون الحَب في الغصون قبل ظهوره ، فإذا نزل المطر ، وضربت الرياح أغصان الأشجار ، أزهرت الأغصان وأثمرت ، وإليه أشار في المباحث الأصلية ، حيث قال : @ وهي من النفوس في كُمُون كما يكون الحب في الغصون حتى إذا أرعدت الرعود وانسكب الماء ولان العود وجال في أغصانها الرياح فعندها يرتقب اللقاح @@ ثم قال : @ فهذه فواكه المعارف لم تشر بالتالِد أو بالطارف ما نالها ذو العين والفلوس وإنما تُباع بالنفوس @@ فلا يظهر هذا السر الكامن في الإنسان إلا بعد إرعاد الرعود فيه ، وهي المجاهدة والمكابدة ، وقتل النفوس ، بخرق عوائدها ، وبعد نزول أمطار النفحات الإلهية ، والخمرة الأزلية ، على يد الأشياخ ، الذين أهَّلهم الله لسقي هذا الماء ، وتجول في أغصان عوالمه رياح الواردات ، وينحط مع أهل الفن ، حتى يسري فيه أنوارهم ، ويتأدّب بآدابهم ، فحينئذ ينتظر لقاح السر فيه ، ويجني ثمار معارفه ، وإلا بقي السر أبداً كامناً فيه . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق . وصلّى الله على سيدنا محمد وآله .