Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 10-11)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { يا جبال } : بدل من { فضلاً } ، أو يقدر : وقلنا . و { الطير } : عطف على محل الجبال ، ومَن رفعه فعلى لفظه . يقول الحقّ جلّ جلاله : { ولقد آتينا داودَ منا فضلاً } أي : مزية خُصّ بها على سائر الأنبياء ، وهو ما جمع له من النبوة ، والمُلك ، والصوت الحسن ، وإلانة الحديد ، وتعلم صنعة الزرد ، وغير ذلك مما خُص به ، أو : فضلاً على سائر الناس بما ذكر ، وقلنا : { يا جبالُ أوّبي معه } رَجّعي معه التسبيح . ومعنى تسبيح الجبال معه : أن الله تعالى يخلق فيها تسبيحاً ، فيسمع منها كما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود عليه السلام ، فكان إذا تخلّل الجبال وسبّح جاوبته الجبال بالتسبيح ، نحو ما سبّح به . وهو من التأويب ، أي : الترجيع ، وقيل : من الإياب بمعنى الرجوع ، أي : ارجعي معه بالتسبيح . { والطيرَ } أي : أوبي معه ، أو : وسخرنا له الطير تؤوب معه . قال وهب : فكان داود إذا نادى بالنياحة على نفسه ، من أجل زلته ، أجابته الجبال بصداها ، وعكفت الطير عليه من فوقه ، فصدى الجبال الذي يسمعه الناس منها هو من ذلك اليوم . قال القشيري : يُقال أوحى الله إلى داود عليه السلام : كانت تلك الزلة مباركة عليك ، فقال : يا رب وكيف تكون الزلة مباركة ؟ فقال : كُنتَ تجيء بأقدار المطيعين ، والآن تجيء بانكسار المذنبين ، يا داود أنين المذنبين أحب إليّ من صراخ العابدين . هـ . مختصراً . وفي هذا اللفظ من قوله : { يا جبال أوبي معه } من الفخامة ما لا يخفى ، حيث جُعلت الجبال بمنزلة العقلاء الذين إذا أمرهم بالطاعة أطاعوا ، وإذا دعاهم أجابوا ، إشعاراً بأنه ما من حيوان وجماد إلا وهو منقادٌ لقدرة الله تعالى ومشيئته . ولو قال : آتينا داود منا فضلاً تأويب الجبال معه والطير لم يكن فيه هذه الفخامة . { وألنّا له الحديدَ } أي : جعلناه له ليناً ، كالطين المعجون ، يصرفه بيده كيف يشاء ، من غير نار ولا ضرب بمطرقة ، قيل : سبب لينه له : أنه لما مَلك بني إسرائيل ، وكان من عادته أن يخرج متنكراً ، ويسأل كل مَن لقيه : ما يقول الناس في داود ؟ فيثنون خيراً ، فلقي ملكاً في صورة آدمي ، فسأله ، فقال : نِعْمَ الرجل ، لولا خصلة فيه : يأكل ويطعم عياله من بيت المال ، فتنبّه ، وسأل الله تعالى أن يسبب له سبباً يُغنيه عن بيت المال ، فألان له الحديد مثل الشمع ، وعلّمه صنعة الدروع ، وهو أول مَن اتخذها . وكانت قبل ذلك صفائح . ويقال : كان يبيع كل درع منها بأربعة آلاف ، فيأكل ويُطعم عياله ، ويتصدّق على الفقراء والمساكين . وقيل : كان يلين له ولمَن اشتغل معه له ، قُلت : ذكر ابن حجر في شرح الهمزية أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان إذا وطىء على صخرة أثر فيها قدمه ، وهذا أبلغ من إلانة الحديد لأن لين الحجارة لا يعرف بنار ، ولا بغيرها ، بخلاف الحديد . هـ . وقيل : لأن لين الحديد في يد داود عليه السلام لِما أُولي من شدة القوة . وأمرناه { أنِ اعمل سَابِغاتٍ } أي : دروعاً واسعةً تامة ، من : السبوغ ، بمعنى الإطالة ، { وقدِّر في السَّردِ } لا تجعل المسامير دقاقاً فيقلق ، ولا غلاظاً فتنكسر الحلَق ، أو تؤذي لابسها . والتقدير : التوسُّط في الشيء ، والسرد : صنعة الدروع ، ومنه قيل لصانعه : السراد والزراد . { واعملوا صالحاً } شكراً لما أسدي إليكم . والضمير لداود وأهله . والعمل الصالح : ما يصلح للقبول لإخلاصه وإتقانه ، { إِنِّي بما تعملون بصير } فأجازيكم عليه . الإشارة : الفضل الذي أُوتيه داود عليه السلام هو كشف الحجاب بينه وبين الكون ، فلما شهد المكون ، كانت الأكوان معه . " أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون ، فإذا شهدت المكون كانت الأكوان معك " . ولا يلزم من كونها معه في المعنى ، بحيث تتعشّق له وتهواه ، أي : تنقاد كلها له في الحس ، بل ينقاد إليه منها ما يحتاج إليه ، حسبما تقتضيه الحكمة ، وتسبق به المشيئة ، فسوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار . وقوله تعالى : { وأَلَنَّا له الحديدَ } في الظاهر : الحديد الحسي ، وفي الباطن : القلوب الصلبة كالحديد ، فتلين لوعظه بالإيمان والمعرفة . وكذا في حق كل عارف تلين لوعظه القلوب ، وتقشعر من كلامه الجلود . وهو أعظم نفعاً من لين الحديد الحسي . ويقال له : أن اعمل سابغاتٍ ، أي : دروعاً تامة ، يتحصّن بها من الشيطان والهوى ، وهو ذكر الله ، يستعمله ويأمر به ، ذكراً متوسطاً ، من غير إفراط ممل ، ولا تفريط مخل . فإذا انتعش الناس على يده كَبُرَ قدره عند ربه ، فيؤمر بالشكر ، وهو قوله : { واعملوا صالحاً إِني بما تعملون بصير } والله تعالى أعلم . ثم ذكر سليمان عليه السلام فقال : { وَلِسُلَيْمَانَ ٱلرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ … }