Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 34, Ayat: 51-54)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : " مُرِيب " : اسم فاعل ، من أراب ، أي : أتى بريبة ، وأربته : أوقعته في الريبة . ونسبة الإرابة إلى الشك مجاز . والمراد : وصفه بالشدة والإظلام ، بحيث إنه يوقع في شك آخر . يقول الحق جلّ جلاله : { ولو ترى } يا محمد ، أو : يا مَن تصح منه الرؤية ، الكفرةَ . { إِذ فَزِعُوا } حين فزعوا عند صيحة البعث ، لرأيت أمراً فظيعاً هائلاً ، { فلا فَوْتَ } أي : لا مهرب لهم ، أو : فلا يفوتون الله ولا يسبقونه . { وأُخذوا } إلى النار { من مكان قريبٍ } من المحشر إلى قعر جنهم . أو : ولو ترى إذ فزعوا عند الموت فلا فوت منه ، وأُخذوا من ظهر الأرض إلى بطنها ، أو : إذا فزعوا يوم بدر ، وأُخذوا من صحراء بدر إلى القليب . { وقالوا } حين عاينوا العذاب : { آمنَّا به } أي : بمحمد صلى الله عليه وسلم لمرور ذكره في قوله : { مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّنْ جِنَّةٍ } [ سبأ : 46 ] أو : بالله ، أو : بالقرآن المذكور في قوله : { فبما يُوحي إليَّ ربي } { وأَنَّى لهم التناوشُ } أي : التناول . من قرأه بالواو فوجهه : أنه مصدر : ناش ، ينوش ، نوشاً ، أي : تناول ، وهي لغة حجازية ، ومنه : تناوش القوم في الحرب : إذا تدانوا ، وتناول بعضهم بعضاً ، أي : ومن أين لهم تناول التوبة وقد بَعدت عنهم ، يعني أن التوبة كانت منهم قريبة ، تُقبل منهم في الدنيا ، وقد ذهبت الدنيا وبَعُدت عن الآخرة . وقيل : هو تمثيل لطلبهم ما لا يكون ، وهو أن ينفعهم إيمانهم في ذلك الوقت ، كما نفع المؤمنين إيمانهم في الدنيا ، فمُثِّلت حالهم بحال مَن يريد أن يتناول الشيء من غَلْوة كما يتناوله الآخر من ألف ذراع . ووجه مَن قرأه بالهمز : أنه مصدر : تناءش ، بمعنى أبطأ ، أو : بعُد ، يقال : تناءشت الشيء : أخذته من بُعْدٍ . النئيش : الشيء البطيء ، كما قال الشاعر : @ وجئْتَ نئيشاً بَعْدَما فَاتَكَ الخير @@ أي : جئت بطيئاً . وقيل : الهمز بدل الواو ، كالصائم ، والقائم ، وأقتت . والمعنى : ومن أين لهم حصول الإيمان المتعذر بعد حصول البعد عن وقته . { وقد كفروا به من قبل } حصول العذاب ، أو : قبل الموت في الدنيا ، { ويُقْذَفُون بالغيب من مكان بعيدٍ } هو عطف على " كفروا " على حكاية الحال الماضية ، أي : وقد كفروا في الدنيا ، ورَموا بظنونهم في الأمور المغيبة ، فقالوا : لا بعث ولا حساب ، ولا جنة ولا نار . { من مكان بعيد } عن الحق والصواب ، أو : هو قولهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شاعر ، ساحر ، كذاب ، وهو رجم بالغيب إذ لم يشاهدوا منه سحراً ولا شعراً ولا كذباً . وقد أتوا بهذا الأمر من جهة بعيدة من حاله صلى الله عليه وسلم إذ لم يعرفوه إلا بالصدق ، والأمانة ، ورجاحة العقل . { وحِيلَ بينهم وبين ما يشتهون } من نفع الإيمان يومئذ ، والنجاة به من النيران ، والفوز بنعيم الجنان ، أو بين الرد إلى الدنيا ، كما حُكِيَ عنهم بقوله : { فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً } [ السجدة : 12 ] { كما فُعل بأشياعهم من قبلُ } أي : بأشباههم من الكفرة الدارجة مِن قبلهم ، فإنه قد حيل بينهم وبين ما يشتهون من الإيمان والعمل الصالح بالموت ، وهذه الأفعال كلها تقع في المستقبل ، عبَّر عنها بالماضي لتحقُّق وقوعها . { إِنهم كانوا في شكٍّ } في أمر الرسول والبعث ، { مُريب } موقع للريبة ، أو : ذي ريبة ، نعت به للمبالغة . وفيه رد على مَن زعم أن الله لا يُعذّب على الشك ، قاله النسفي . الإشارة : قوم غفلوا عن تحقيق الإيمان ، وتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى إذا كُشف بعد الموت عن مقامهم القصير ، ومكانهم البعيد ، قالوا : آمنا وتيقَّنَّا ، وأنى لهم التناوش من مكان بعيد . وقوم اشتغلوا بالبطالة والتقصير ، وصرفوا في الشهوات والحظوظ عمرهم القصير ، وتوغلوا في أشغال الدنيا وزخارفها ، فذهلوا عن الجد والتشمير ، فإذا انقضت عنهم أيام الدنيا حيل بينهم وبين ما يشتهون ، من اغتنام الأوقات ، وتعمير الساعات ، لنيل المراتب والدرجات ، وهنالك يقع الندم حين لم ينفع ، ويُطلب الرجوع فلا يُسْمَع . قال القشيري : إذا تابوا وقد أُغْلِقَت الأبواب ، وندمُوا وقد تقطعت بهم الأسباب ، فليس إلا الحسرات مع الندم ، ولات حين ندامة ! كذلك مَن استهان بتفاصيل فترته ، ولم يَسْتَفِقْ من غَفْلَتِه فتجاوز حده ، ويُعْفَى عنه كَرَّه . فإذا استمكن في القسوة ، وتجاوز في سوء الأدب حدَّ القلة ، وزاد على مقدار الكثرة ، فيحصل لهم من الحق رَدّ ، ويستقبلهم حجاب البُعد . فعند ذلك لا يُسمع لهم دعاء ، ولا يُرْحَمُ لهم بكاء ، كما قيل ، وأنشد : @ سبيلَ العينِ بعدك للبُكَا فليس لأيام الصفاءِ رجوعُ هـ . @@ وقوم شمروا عن سابق الجد والتشمير ، ولم يقنعوا من مولاهم بقليل ولا كثير ، قد انتهزوا فرصة الأعمار ، ولم يشغلهم عن الله ربع ولا ديار ، عمّروا أوقاتهم بالذكر والتذكار ، وفكرة الاعتبار والاستبصار ، حتى وردوا دار القرار ، أولئك المصطفون الأخيار ، يدفع الله تعالى بهم عن أهل الدنيا الأنكاد والأغيار ، ويكشف عن قلوبهم الحُجب والأستار . وقوم حققوا مقام الإيمان ، واشتغلوا بتربيته ، بصحبة أهل الإيقان ، حتى أفضوا إلى مقام العيان ، فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين . جعلنا الله من خواصهم بمنِّه وكرمه ، وبمحمد نبيه وحبه صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه .