Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 35, Ayat: 10-10)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { من كان يريدُ العِزَّةَ } أي : الشرف والمنعة على الدوام ، في الدنيا والآخرة ، { فللّه العزةُ جميعاً } فليطلبها من عنده ، بالتقوى ، والعلم ، والعمل الصالح ، كالزهد في الدنيا ، والتبتُّل إلى الله ، أي : فالعزة كلها مختصة بالله ، عز الدنيا وعز الآخرة . وكان الكفار يتعززون بالأصنام ، كما قال تعالى : { وَاتَّخَذُوا مِن دُونِ اللهِ ءَالِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزًّا } [ مريم : 81 ] ، والمنافقون كانوا يتعزّزون بالمشركين ، كما قال تعالى : { الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ للهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] ، فبيَّن أن العزة إنما هي لله بقوله : " فإن العزة لله " فليطلبها مَن أرادها من عنده . فوضع قوله : { فلله العزةُ } موضعه ، استغناء به عنه لدلالته لأن الشيءَ لا يُطلب إلا من عند صاحبه ومالكه . ونظيره قولك : مَنْ أراد النصيحة فهي عند الأبرار ، أي : فليطلبها من عندهم . وفي الحديث : " إن ربكم يقول كل يوم : أنا العزيز ، فمَن أراد عزّ الدارين فليُطِعِ العزيز " . ثم ذكر ما يطلب به العز ، وهو العمل المقبول ، بقوله : { إِليه يَصْعدُ الكَلِمُ الطيبُ } كلمة التوحيد : لا إله إلا الله ، وما يلحقها من الأذكار ، والدعاء ، والقراءة . وعنه صلى الله عليه وسلم : " هو سُبحان الله والحمدُ لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبرُ . إذا قالها العبدُ عَرَجَ بها الملكُ إلى السماء ، فحَيّا بها وَجْهَ الرحمن " وكان القياس : الطيبة ، ولكن كل جمع ليس بينه وبين واحده إلا التاء يُذكّر ويؤنّث . ومعنى الصعود : القبول والرضا ، وكل ما اتصف بالقبول وُصف بالرفعة والصعود . { والعملُ الصالحُ } كالعبادة الخالصة { يرفعه } الله تعالى ، أي : يقبله . أو : الكلم الطيب ، فالرافع على هذا الكلم الطيب ، والمرفوع العمل الصالح ، أي : والعمل الصالح يرفعه الكلم الطيب لأن العمل متوقف على التوحيد ، المأخوذ من الكلم الطيب وفيه إشارة إلى أن العمل يتوقف على الرفع ، والكَلِم الطيب يصعد بنفسه ، ففيه ترجيح الذكر على سائر العمل . وقيل : بالعكس ، أي : والعمل الصالح يرفع الكلم الطيب ، فإذا لم يكن عمل صالح فلا يقبل منه الكلم الطيب . وقيل : والعمل الصالح يرفعُ العامل ويشرفه ، أي : مَن أراد العزّة والرفعة فليعمل العمل الصالح فإنه هو الذي يرفع العبد . ثم ذكر سبب الذل في الدارين ، فقال : { والذين يمكرون } المكرات { السيئاتِ } فالسيئات : صفة لمصدر محذوف لأن " مكر " لا يتعدى بنفسه . والمراد : مكر قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم حين اجتمعوا في دار الندوة كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] الآية . { لهم عذاب شديد } في الآخرة ، { وَمَكْرُ أولئك هو يَبورُ } أي : يفسد ويبطل ، دون مكر الله بهم ، فالضمير يفيد الاختصاص . الإشارة : العز على قسمين : عز الظاهر ، وعز الباطن ، فعز الظاهر هو تعظيم الجاه وبُعد الصيت ، واحترام الناس لصاحبه ، ولمَن تعلّق به ، وسببه : التقوى ، والعلم ، والعمل ، ومكارم الأخلاق كالسخاء ، والتواضع ، وحسن الخلق ، والإحسان إلى عباد الله . وعز الباطن : هو الغنى بالله ، وبمعرفته ، والتحرُّر من رق الطمع ، والتحلّي بحلية الورع . وسببه الذل لله ، يُظهر ذلك بين أقرانه ، كما قال الشاعر : @ تذلَّلْ لمَن تَهْوَى لِتَكْسِبَ عِزةً فكم عزةٍ نالها المرء بالذُّلِّ إذا كان مَن تَهْوى عزيزاً ولم تكن ذليلاً له فاقْرِ السلامَ على الوَصْلِ @@ وغايته : الوصول إلى معرفة الشهود والعيان . فإذا تعزّز القلب بالله لم يلتفت إلى شيء ، ولم يفتقر إلى شيء ، وكان حرًّا من كل شيء ، عبداً لله في كل شيء . وقد يجتمع للعبد العزان معاً ، إذا كان عارفاً بالله عاملاً ، وقد ينفرد عز الظاهر في أهل الظاهر ، وينفرد عز الباطن في بعض أهل الباطن ، يتركهم تحت أستار الخمول ، حتى يلقوه وهم عرائس الأولياء ، ضنّ بهم الحق تعالى عن خلقه ، فلم يُظهرهم لأحد ، حتى قدموا عليه ، وهم الأولياء الأخفياء الأتقياء ، كما ورد مدحهم في الحديث . وكلا العزين لله ، وبيد الله ، فلا يُطلب واحد منهما إلا منه سبحانه . قال القشيري : وقال في آية أخرى : { وَللهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ } [ المنافقون : 8 ] فأثبت العزة لغيره ، والجمع بينهما : أن عِزَّة الربوبية لله وَصْفاً ، وعزَّة الرسول والمؤمنين لله فضْلاً ، ومنه لطفاً ، فإذاً العزة لله جميعاً . والكلم الطيب هو الذي يصدر عن عقيدة طيبة ، وقلب طيب ، لا كدر فيه ولا أغيار ، وقيل : ما ليس فيه حظ للعبد ، وقيل : ما يستخرج من العبد ، وهو فيه مفقود ، وقيل : ما ليس فيه حاجة ، ولا يطلب عليه عوض ، وقيل : ما يشهد بصحته الإذن والتوقيف . انظر القشيري . ويؤخذ من قوله : { والعملُ الصالحُ يرفعه } أن العمل إذا بقي بين عين العبد يلحظه ، وينظر إليه ، فهو علامة على عدم قبوله ، إذ لو قُبل لرفع عن نظره ، فلا عمل أرجى للقلوب من عمل يغيب عنك شهوده ، ويختفي لديك وجوده . والذين يمكرون بالأولياء ، المكرات السيئات ، لهم عذاب شديد ، وهو البُعد من الله ، ومكر أولئك هو يبور . وأما الأولياء فهم في حجاب مستور ، من كل مكر وخداع وغرور . ثم ذكر أصل نشأتهم ليتحققوا ضعفهم ووهنهم فقال : { وَٱللَّهُ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ … }