Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 37, Ayat: 164-166)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله حاكياً عن الملائكة : { وما منّا إِلا له مَقامٌ معلومٌ } في العبادة ، أو : في السموات ، نعبد الله فيه ، أو : في القُرب والمشاهدة لا نتعداه ، ولا نترقى عنه إلى غيره ، ففيه تنبيه واعتراف بافتقارهم لمخصصهم ، القاضي بحدوثهم . وفي اعترافهم بذلك ردٌّ على زعم الكفار أنهم بنات الله ، أو شركاء له ، وتنزيه له تعالى عن ذلك لتنافي العبودية والطاعة التي اعترفوا بها ، والبنوة المدّعاة من الكفار ، تعالى الله عن قولهم . وهذا يجري أيضاً في القول الذي يقول : إنهم قسم ثالث ، ليسوا بجوهر ولا عرض ، كالأرواح ، فإنها على تقدير كونها كذلك ، جائزة لقبولها التفاوت في العلوم والمعارف وغير ذلك . وذلك قاضٍ بالافتقار ، والتخصيص لِمَا هي عليه ، المستلزم للحدوث . قاله في الحاشية . قلت : القول بأن الملائكة مجردات عن المادة ، هو قول الفلاسفة ، ونحى إليه الغزالي . وهو مناقض للقرآن والحديث لأن كونهم صفوفاً قائمين ، أو ساجدين ، أو سائرين ، يقتضي تشكيلَهم وتحييزَهم ، فيستلزم المادة إلا أنها نورانية لطيفة ، وكذلك الأرواح ، على ما في الأحاديث ، فإنها متحيزة على أشكال لطيفة . والله أعلم . { وإِنا لنحن الصافُّون } نصفّ أقدامنا في الصلاة ، أو : نصفّ حول العرش داعين للمؤمنين ، { وإِنا لنحنُ المسبِّحُون } المنزّهون الله تعالى عما نسبته إليه الكفرة ، من الولد ، وغير ذلك من الأباطيل المذكورة . أو : المشتغلون بالتسبيح على الدوام ، أو : المصلُّون . ويحتمل أن يكون هذا وما قبله من قوله : { سبحان الله … } الخ ، من كلام الملائكة ، حتى يتصل بذكرهم ، كأنه قيل : ولقد عَلِمَ الملائكةُ أن المشركين محضرون للعذاب على افترائهم على الله فيما نسبوا إليه ، وقالوا : سبحان الله ، ونزّهوه عن ذلك ، واستثنوا عباد الله المخلصين ، وبرّؤوهم من ذلك ، وقالوا للكفرة : وإذا صحّ ذلك فإنكم وآلهتكم لا تقدرون أن تفتنوا على الله أحداً من خلقه ، وتضلُّوه ، إلاّ مَن كان من أهل النار ، وكيف نكون مناسِبين لرب العزة ! وما نحن إلا عبيد أذلاء بين يديه ، لكلّ منا مقامٌ من الطاعة معلومٌ ، لا يستطيع أن يزلَّ عنه ، ونحن نصفّ أقدامنا لعبادته ، مسبِّحين بحمده ، كما يجب على العباد . ولعل قولهم : { وما منا إِلا له مقام معلوم } إشارة إلى تفاوتهم في درجات القُرب ومقامات اليقين : وقولهم : { وإِنا لنحن الصافُّون } إشارة إلى تفاوتهم في الطاعات والعبادات ، وهم طبقات : منهم هائمون مستغرقون في الشهود ، ومنهم مستغرقون في مقام الهيبة والمراقبة ، ومنهم مستغرقون في الخدمة والعبادة . والله تعالى أعلم . الإشارة : مادة الآدمي أكمل من مادة الملائكة ، فإذا اتصل العبد بشيخ كامل ، واعتنى بتصفية روحه وسره ، طَوى نوره الوجودَ بأسره ، ولا يزال يترقى في معاريج أسرار التوحيد والتفريد ، وتتوارد عليه الكشوفات ، والعلوم ، والأسرار ، في هذه الدار الفانية ، وفي تلك الدار الباقية ، أبداً سرمداً ، بخلاف الملائكة ، فإنَّ لكل واحد مقاماً معلوماً لا يتعداه ، كما أخبر تعالى : وسرُّ ذلك : أن الآدمي فيه بشرية وروحانية ، فكلما جاهد نفسه ، وغاب عن حس بشريته ترقى في معارج التوحيد ، والمجاهدة لا تنقطع عنه في هذه الدار لأنها دار أكدار ، فلا ينقطع عنه الترقي في المشاهدة ، وأما في تلك الدار فالترقي فيها من باب الكرم والإثابة على ما هنا . وأيضاً : البشرية للآدمي بمنزلة الطلاء للمِرآة ، فالمرآة بلا طلاء لا ترى فيها صور الأشياء ، كذلك الملائكة لا بشرية لهم ، فلا تنكشف لهم الحقائق كما تنكشف للآدمي ، ولو كشف لهم ما انكشف له لذابوا . والله أعلم . قال في القوت : لَعمري إن سائر الملائكة لا ينتقلون في المقامات كترقي المؤمنين ، إنما لكلٍّ مقام معلوم ، لا ينتقل إلى غيره ، إلا أنهم يُمدّون من ذلك بمدد لا نهاية له إلى يوم القيامة ، بأكثر ما يزاد جملة البشر هـ . قلت : ومعنى كلامه : أن الملائكة يُمدون في مقامهم بقوة لا يستطيعها البشر ، فمَن كان في مقام الهيبة دام فيها ، وقَوِي عليها ، ومَن كان في مقام الخدمة ، دام عليها ، وقوي عليها ، قوةً لا يطيقها البشر ، ولا يترقى عنها ، بخلاف الآدمي ، فليست فيه هذه القوة ، لكنه يترقى من مقام إلى مقام ، ويترقى في المعارف على الدوام . ثم بسط صاحب القوت في ذلك الكلام في فضائل الصلاة ، وأنها جامعة لما فُرق على الملائكة من الأعمال والأذكار . قال : وبذلك فضل المؤمنون الملائكة ، وكذلك فضل الموقن أيضاً في مقامات اليقين من أعمال القلوب ، على الأملاك بالتنقيل بأن جُمعت فيه ، ورُفع فيها مقامات ، والملائكة لا يُنقلون ، بل كل ملك موقوف في مقام معلوم ، لا ينقل منه إلى غيره ، وإنما له المزيد من المقام الواحد على قدر قواه ، وجمع ذلك كله في قلب المؤمن ، ونقل فيه مقامات . وكان له من كل مقام مشاهدات . هـ . قال المحشي الفاسي : وفيه نظر ، مع تلقيهم ضروب الوحي الجامع للمقامات ، فكيف لا يُمكّنهم تحققاً بها على اختلافها ؟ ولو كان كما قال لكان كل مَلَكٍ إنما يتلقى من الوحي ما يناسبه ، ويختص بمقامه ، وليس الأمر كذلك ضرورة . هـ . قلت : وفي نظره نظر إذ لا يلزم من تلقيهم للوحي على أنواعه أن يترقوا به إذ ليس الترقي هو مجرد العلم ، بل الترقي إنما هو أذواق ووجدان ، وكشوفات بعد حصول العلم . وقد يتحقق العلم بالمقام ، ولا ينتقل عنه إلى غيره ، بل قد يعلمه ولا يذوقه ، كما هو محقق عند أهل الفن ، ثم قال : والحق ما نبّه عليه البيضاوي . وكلام القوت ينظر لقول الحكماء ، ومثله كلام الإحياء . هـ . ونص البيضاوي في قوله تعالى : { قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ } [ البقرة : 33 ] الآية : إنَّ علوم الملائكة وكمالاتهم تقبل الزيادة ، والحكماء مَنعوا ذلك في الطبقات العليا منهم ، وحملوا عليه قوله تعالى : { وما منا إِلا له مقام معلوم } . هـ . قلت : ترقي الآدمي هو انتقاله من مقام إلى مقام ، حتى يُكاشف بأسرار الذات وأنوار الصفات ، ثم لا يزال يترقى في الأذواق والكشوفات ، يتجدّد له في كل يوم وساعة ، حلاوة وكشف لم تكن عنده قبلُ ، بخلاف الملائكة ، فإنما يترقى كل واحد في كشف أسرار مقامه ، ويجد حلاوة في ذلك المقام لم تكن له قبلُ ، ولا ينتقل عنه ، فمَن كان من أهل الخدمة زاده الله حلاوتها . ومَن كان من أهل المراقبة فكذلك . ومَن كان من أهل المشاهدة غلب عليه السكر والهذيان ، ولا يزيد على ذلك . وهم الطبقة العليا ، فلا منافاة بين كلام القوت وكلام البيضاوي لأن الترقي إنما هو في الأذواق والكشوفات ، لا في العلوم الغيبية ، ولا في الكمالات النفسية . فتأمله . وقال القشيري : الملائكة لا يتخطون مقامهم ، ولا يتعدَّوْن حدَّهم ، والأولياء مقامهم مستورٌ بينهم وبين الله ، لا يطلع عليه أحد ، والأنبياء عليهم السلام لهم مقام مشهورٌ ، مُؤَيَّدٌ بالمعجزات الظاهرة لأنهم للخَلْقِ قدوة ، فأمْرُهُم على الشهرة ، وأَمْرُ الأولياء على السَّتْرِ . هـ . وقال الورتجبي : أهل البدايات في مقام الطاعات ، والأوْسَاط في المقامات ، مثل التوكل والرضا ، والتسليم ، والمُحبُّون في مقامات الحالات والمواجيد ، وأهل المعرفة في مقام المعارف ، ينقلون في المشاهدة من مقام إلى مقام ، ولا يبقى المقام للموحدين ، فإنهم مستغرقون في بحار الذات والصفات ، فليس لهم مقام معلوم لأن هناك لم يكن لهم وقوف ، حيث أفناهم قهرُ الجلال ، والجمال ، والعظمة ، والكبرياء ، عن كل ما وجدوا من الحق ، فيبقوا في الفناء إلى الأبد . هـ . قلت : ما ذكر من الطبقات الثلاث هم العباد ، والزهّاد ، وأرباب الأحوال ، وحالهم كحال الملائكة ، يُمَدُّون في مقامهم ، ولا ينتقلون منه ، فلكل واحدة قوة في مقامه ، لا يطبقها العارف ، لكنه فاتهم بالترقي عنهم إلى مشاهدة الذات ، والترقي فيها أبداً . ثم قال الورتجبي في قوله تعالى : { وإِنا لنحن الصافُّون } : لمَّا كانوا من أهل المقامات المعلومات افتخروا بمقاماتهم في العبودية ، من الصلاة والتسبيح ، ولو كانوا من أهل الحقائق في المعرفة لفنوا عن ملاحظة طاعتهم ، من استيلاء أنوار مشاهدة الحق عليهم ، والاستغراق في بحارٍ من الألوهية . قال بعضهم : لذلك قطعت بهم مقاماتُهم عن ملاحظة المِنَّة ، حتى قالوا بالتفخيم : { إِنا لنحن } فلما أظهروا سرائرهم عارضوا إظهار أفعال الربوبية بالمعارضة ، حتى قالوا : { أتجعلُ فيها من يُفسد فيها } [ البقرة : 30 ] . هـ . وكلامنا كله مع عامة الملائكة ، وأما المقربون فالأدب الإمساك عنهم صلوات الله وسلامه عليهم . ثم رجع إلى الكلام مع قريش ، فقال : { وَإِن كَانُواْ … }