Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 10-10)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : { في هذه } : متعلق بأحسنوا ، أو : بحسنة ، على أنه بيان لمكانها ، أو : حال من ضميرها في الظرف . يقول الحق جلّ جلاله : { قل يا عبادِ الذين آمنوا اتقوا ربَّكم } بامتثال أوامره ، واجتناب نواهيه ، أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يحثّهم على التقوى ويُذكِّرهم بها ، بعد تخصيص التذكير بأولي الألباب ، إيذاناً بأن أُولي الألباب هم أهل التقوى ، وفي إضافتهم إلى ضمير الجلالة بقوله : { يا عبادي } تشريف لهم ، ومزيد اعتناء بشأن المأمور به ، وهو التقوى . ثم حرَّض على الامتثال بقوله : { للذين أحسنوا } أي : اتقوا الله وأطاعوه { في هذه الدنيا } الفانية ، التي هي مزرعة الآخرة . { حسنةٌ } أي : حسنةٌ عظيمة ، لا يُكتنه كُنهها ، وهي الجنة ونعيمها ، أو : للذين أحسنوا بالطاعة والإخلاص حسنة معجّلة في الدنيا ، وهي الصحة والعافية ، والحياة الطيبة ، أو : للذين أحسنوا ، أي : حصلوا مقام الإحسان الذي عبّر عنه عليه الصلاة والسلام بقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه " حسنة كبيرة ، وهي لذة الشهود ، والأنس بالملك الودود في الدارين . ولما كان هذا المقام لا يتأتى تحصيله إلا في بعض البلاد الخالية من الشواغل والموانع ، أمر بالهجرة من الأرض التي لا يتأتى فيها التفرُّغ ، فقال : { وأرضُ الله واسعةً } ، فمَن تعسَّر عليه التفرُّغ للتقوى ، والإحسان وعمل القلوب ، في وطنه ، فليهاجر إلى بلد يتمكن فيه ذلك ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، فإنه لا عذر له في التفريط والبطالة أصلاً . ولمّا كان الخروج من الوطن صعباً على النفوس ، يحتاج إلى صبر كبير رغَّب في الصبر بقوله : { إِنما يُوفى الصابرون } على مفارقة الأوطان ، وتحمُّل مشاق الطاعات ، وتحقيق الإحسان ، { أجْرَهم } في مقابلة ما كابدوه من الصبر ، { بغير حسابٍ } بحيث لا يحصى ولا يحصر بل يصب عليهم الأجر صبّاً ، فلهم ما لا عين رأت ، ولا أُذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر . وعن ابن عباس رضي الله عنه : لا يهدي إليه حساب الحسّاب ، ولا يُعرف ، وفي الحديث : " أنه يُنصب الموازين يوم القيامة لأهل الصلاة والصيام والحج ، فيوفّون بها أجورهم ، ولا تنصب لأهل البلاء بل يُصب عليهم الأجر صبّاً ، حتى يتمنى أهل العافية في الدنيا أن أجسادهم تقرض بالمقاريض ، مما يذهب به أهل البلاء من الفضل " وكل ما يشق على النفس ويتعبها فهو بلاء ، والله تعالى أعلم . الإشارة : بالتقوى الكاملة يصير العبد من أُولي الألباب ، فبقدر ما تعظم التقوى يعظم إشراق النور في القلب ، ويتصفّى من الرذائل ، وقد تقدّم الكلام عليها مستوفياً عند قوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُواْ اللهَ } [ النساء : 100 ] فمَن أحسن في تقواه أحسن الله عاقبته ومثواه ، وحفظه في دنياه وأخراه . فمَن تعذّرت عليه التقوى في وطنه ، فليهاجر منه إلى غيره ، والهجرة سُنَّة نبوية ، وليتجرّع الصبر على مفارقة الأوطان ، ومهاجرة العشائر والإخوان ، لينخرط في سلك أهل الإحسان ، قال تعالى : { وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ والَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِىَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] الآية . قال القشيري : الصبر : حَبْسُ النفس على ما تكره ، ويقال : تجرُّعُ كاسات التقدير ، من غير استكراهٍ ولا تعبيس ، ويقال : التهدُّف لسهام البلاء . هـ . ثم أمر بالإخلاص ، الذي هو شرط في الجميع ، فقال : { قُلْ إِنِّيۤ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ ٱللَّهَ } .