Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 39, Ayat: 11-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { قُل } لهم : { إِني أُمرتُ أن أعبدَ اللهَ } حال كوني { مخلصاً له الدينَ } من كل ما ينافيه من الشرك والرياء ، وما أمر به صلى الله عليه وسلم يُؤمر به أمته بل هم المقصودون . ثم قال : { وأمرتُ لأن أكون أول المسلمين } أي : وأُمرت بذلك لأجل أن أكون مقدمهم في الدنيا والآخرة لأن إحراز قصَبِ السبق في الدين بالإخلاص فيه ، فالإسلام الحقيقي هو المنعوت بالإخلاص ، والتقدير : أُمرت بالعبادة والإخلاص فيها ، وأُمرت بذلك لأن أكون أول المخلصين . أو : تكون اللام زائدة ، وهو أظهر ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّى أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنَ أَسْلَمَ } [ الأنعام : 14 ] أي : من قومي ، أو : من أهل زماني ، أو : أكون أول مَن دعا غيره إلى ما دعا إليه نفسه ، وهو الإسلام ، وحاصله : أُمرت بإخلاص الدين ، وأُمرت أن أكون من السابقين في ذلك زماناً ورتبة لأنه داع إلى الإسلام ، والداعي إلى الشيء ينبغي أن يكون متحلياً به ، كما هي سُنَّة الأنبياء والأولياء ، لا الملوك والمتجبرين . { قل إِني أخافُ إِن عَصَيْتُ ربي } بترك الإخلاص ، والميل إلى ما أنتم عليه من الشرك { عذابَ يومٍ عظيم } هو يوم القيامة . وُصف بالعظمة لعظمة ما فيه من الدواهي والأهوال . { قُلِ اللهَ أعبدُ } لا غيره ، لا استقلالاً ولا اشتراكاً . وليس بتكرار لأن الأول إخبار عن كونه مأموراً بالإخلاص في الدين ، وبالسبق إليه ، وهذا إخبار بأنه امتثل الأمر ، وفعل ما أُمر به . وقدِّم المفعول لأنه جواب لقول الكفرة : أعْبُدْ ما نعبد ، لنعبُد ما تعبد ، فهو كقوله : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] أي : لا أعبد إلا الله { مخلصاً له ديني } من كل ما يشوبه من العلل ، فأمر صلى الله عليه وسلم أولاً ببيان كونه مأموراً بعبادة الله وإخلاص الدين له ، ثم بالإخبار بخوفه من العذاب على تقدير العصيان ، ثم بالإخبار بامتثالهِ لِمَا أمر به على أبلغ وجه إظهاراً لتصلُّبه في الدين ، وحسماً لمادة أطماعهم الفارغة ، وتمهيداً لتهديدهم بقوله : { فاعبدوا ما شئتم } أن تعبدوه { من دونه } تعالى . وفيه من الدلالة على شدة الغضب عليهم ما لا يخفى ، كأنهم لَمَّا لَمْ ينتهوا عما نُهوا عنه أُمِرُوا به ، كي يحيق بهم العذاب . { قلْ إِن الخاسرين } الكاملين في الخسران ، الذي هو عبارة عن : إضاعة ما يهمه ، وإتلاف ما لا بد منه ، هم { الذين خسروا أنفُسَهم } بتعريضها للعطب ، { وأهلِيِهِم } بتعريضهم للتفرُّق عنهم ، فرقاً لا جمع بعده إما في عذاب الأبد ، إن ماتوا على الكفر معهم ، أو : في الجنة ، إن آمنوا ، فلا يرونهم أبداً . وقيل : خسروا أهلهم لأنهم لم يدخلوا مدخل الذين لهم أهل في الجنة ، أو : خسروا أهلهم الذين كانوا يتمتعون بهم ، لو آمنوا . { ألا ذلك هو الخسرانُ المبينُ } الذي لا خسران أظهر منه . وتصدير الجملة بحرف التنبيه ، والإشارة بذلك إلى بُعد منزلة المشار إليه في الشر . وتوسيط ضمير الفصل ، وتعريف الخسران ، ووصفه بالمبين من الدلالة على كمال هوله وفظاعته ، وأنه لا خسران وراءه ، ما لا يخفى . { لهم من فوقهم ظُلَلٌ من النار } أي : لهم ظلل كثيرة متراكمة بعضها فوق بعض ، كائنة من النار ، { ومن تحتهم } أيضاً { ظُلَلٌ } أي : أطباق كثيرة ، بعضها تحت بعض ، هي ظلل لآخرين . { ذلك } العذاب الفظيع هو الذي { يُخوِّف اللهُ به عبادَه } ويُحذِّرهم إياه ليجتنبوا ما يوقعهم فيه . { يا عبادِ فاتقون } ولا تتعرضوا لِما يُوجب سخطي . وهذه موعظة من الله بالغة ، منطوية على غاية اللطف والرحمة ، جعلنا الله من أهلها بمنِّه وكرمه . الإشارة : الإخلاص سر بين الله وبين عبده ، لا يطلع عليه ملك فيكتبه ، ولا شيطان فيُفسده ، وهو الغيبة عما سوى الله ، فلا يرى في الدارين إلا الله ، ولا يعتمد إلا عليه ، ولا يخاف إلا منه ، ولا يرجو إلا إياه . والإسلام هو : الانقياد بالجوارح في الظاهر للأحكام التكليفية ، والاستسلام في الباطن للأحكام القهرية التعريفية ، فالإسلام صورة ، والاستسلام روحها ، فالإسلام بلا استسلام جسد بلا روح . وقوله تعالى : { فاعبدوا ما شئتم } هو تهديد لمَن عبدَ نفسه وهواه ، وهو الخسران المبين . ويقال : الخاسر : مَن خسر أيام عمره بالبطالة والتقصير ، وخسر آخرته بعدم التأهُّب والتشمير ، وخسر مولاه بعدم الوصول إلى مشاهدة حضرة العلي الكبير ، وهي حضرة الذات ، فمَن خسر هذا الخسران ، فقد أحاطت به نار القطيعة والحجاب من كل مكان . { ذلك يُخوِّف اللهُ بهِ عباده } قال القشيري : إن خفتَ اليوم كُفيت خوف ذلك اليوم ، وإلا فبين يديك عقبة كُؤُود . ثم ذكر ضد أهل الخسران ، فقال : { وَٱلَّذِينَ ٱجْتَنَبُواْ ٱلطَّاغُوتَ } .