Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 4, Ayat: 172-173)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : أصل الاستنكاف : التنحية ، من قولهم : نكفت الدمع إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك ، ثم أُطلق على الأنفة ، والاستكبار دون الاستنكاف ، ولذا عطف عليه لأن الاستنكاف ، لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق ، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق . قاله البيضاوي . يقول الحقّ جلّ جلاله : في الرد على النصارى : { لن يستنكف } أي : لن يأنف { المسيح أن يكون عبدًا لله } فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها ، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره ، { ولا الملائكة المقربون } لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله ، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله ، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء ، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه ، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح . والجواب : أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة ، كقولهم : أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس ، والرئيس أفضل من المرؤوس ، والتحقيق في المسألة أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين ، وخواص الملائكة وهم المقربون أفضل من خواص البشر كالأولياء ، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة ، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر ، ولذلك قيل : من غلب عقله على هواه كان كالملائكة أو أفضل ، ومن غلب هواه على عقله ، كان كالبهائم أو أضل . والله تعالى أعلم . ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته تعالى فقال : { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا } فيجازيهم { فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات } ولم يستنكفوا عن عبادته { فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله } ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { وأما الذين استنكفوا } عن عبوديته { واستكبروا } عن عبادته { فيعذبهم عذابًا أليمًا } أي : مُوجعًا ، وهو النار وقال القشيري : العذاب الأليم : هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله ، إذ صارت معرفتهم ضرورية أي قهرية فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم . هـ . { ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا } . فإن قلت : هذا التفصيل أعم من المفصل ، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم ، فالجواب : أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام ، فكأنه قال : فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا ، { فأما الذين آمنوا … } الخ ، نظيره : قولك : جمع الأمير كافة مملكته ، فأما العلماء فأكرمهم ، وأما الطغاة فقطعهم . والله تعالى أعلم . الإشارة : العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات ، بها شرف من شرف ، وارتفع من ارتفع ، عند الله ، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية ، فقال تعالى : { سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسرًاء : 1 ] ، وقال : { وَاذْكُرْ عَبادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } [ صَ : 45 ] ، { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ } [ صَ : 17 ] ، { وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيْوُّبَ } [ صَ : 41 ] ، { نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ } [ صَ : 30 ] … إلى غير ذلك . وأوصاف العبودية أربعة : الذل ، والفقر ، والضعف ، والجهل . ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة : العز ، والغنى والقوة والعلم ، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية ، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز ، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى ، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة ، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم ، تحقق بوصفك يمدك بوصفه ، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس .