Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 171-171)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : أصل الغلو : مجاوزة الحد في كل شيء ، يقال : غلا بالجارية لحمها وعظمها ، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها أي : أقرانها ، تغلو غلوًا . يقول الحقّ جلّ جلاله : في عتاب النصارى بدليل ما بعده : { يا أهل الكتاب } الإنجيل { لا تغلوا في دينكم } فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله ، أو ابن الله ، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا ، { ولا تقولوا على الله إلا الحق } ، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد . ثم بيَّن الحق فيه فقال : { إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله } ، لا كما قالت اليهود : ليس برسول ، ولا كما قالت النصارى : إنه الله ، أو ابن الله ، وإنما هو عبد الله ورسوله ، { وكلمته ألقاها إلى مريم } أي : أوصلها إليها وحصلها فيها ، وهي كلمة : كن . فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها ، { وروح منه } وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ ، وسمي النفخ روحًا لأنه ريح يخرج عن الروح ، فكانت روحه صادرة من روح القدس ، كما قال في آدم : { وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى } [ الحِجر : 29 ] ، وقد قال : { إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ } [ آل عِمرَان : 59 ] ، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق لأن الواسطة محذوفة عند المحققين ، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام . { فأمنوا بالله ورسوله } أي : وحدوا الله في إلوهيته ، { ولا تقولوا ثلاثة } أي : الآلهة ثلاثة : الله ، والمسيح ، ومريم ، { انتهوا } عن التثليث يكن { خيرًا لكم إنما الله إله واحد } في ذاته وصفاته وأفعاله ، { سبحانه } أي : تنزيهًا له أن يكون له ولد ، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء ، { له ما في السماوات وما في الأرض } ، ملكًا وخلقًا وعبيدًا ، والعبودية تنافي البُنوة ، { وكفى بالله وكيلاً } فلا يحتاج إلى ولد لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته ، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها ، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه . واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق : نسطورية ، ويعقوبية ، وملكانية ، ومرقوسية ، ومنهم نصارى نجران ، فالنسطورية ، قالوا في عيسى هو ابن الله ، واليعقوبية والملكانية ، قالوا هو الله ، والمرقوسية قالوا : هو ثالث ثلاثة ، وكلهم ضالون . الإشارة : الغلو كله مذموم ، وخير الأمور أوساطها ، وقد قال عليه الصلاة والسلام ـ : " لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم ، ولكن قولوا : عَبدُ اللهِ وَرَسُوله " ، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه ، ما لم يخرجه عن طوره ، أو ينتقص غيره بمدحه ، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد ، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد . وفي ذلك يقول الشاعر : @ أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ _ قلتُ لَهُ : لَيسَ ذَاكَ عِندِي فَقَالَ ما عِندَكُم ؟ فقُلنَا : وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد @@ فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية ، ولذلك أنكرها الشاعر ، أي : أثبت ربًا وعبدًا ، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم : " الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته " . ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم : إنك تعيب صاحبنا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام " ومن صاحبكم ؟ " قالوا : عيسى . قال " وأي شيء أقول ؟ " قالوا : تقول إنه عبد الله . قال لهم عليه الصلاة والسلام ـ : " ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا "