Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 4, Ayat: 1-1)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
قلت : من قرأ : { والأرحامَ } بالنصب ، فعطف على لفظ الجلالة ، أي : اتقوا الأرحام أن تقطعوها ، وقرأ حمزه بالخفض على الضمير من { به } كقول الشاعر : @ فَالْيَوْمَ قَدْ بتّ تَهْجُونَا وَتَشْتُمُنَا فَاذْهَبَ فَمَا بِكَ والأَيَّامِ مِنْ عَجَبِ @@ وجمهور البصريين يمنعون العطف على الضمير إلا بإعادة الجار ، فيقولون : مررت به وبزيد . وقال ابن مالك : @ ولَيْس عِنْدي لاَزمَا إذْ قَدْ أَتَى في النَّظْم والنَّثْر الصَّحِيح مُثْبَتَا @@ والنثر الصحيح هو ما قرأ به حمزة ، وهذا هو التوجيه الصحيح ، وأما من جعل الواو للقسم فبعيد . يقول الحقّ جلّ جلاله : { يا أيها الناس } أي : جميع الخلق ، اتقوا ربكم فيما كلفكم به ، ثم بيَّن موجب التقوى فقال : { الذي خلقكم من نفس واحدة } يعني آدم ، { وخلق منها زوجها } يعني حواء ، من ضلع من أضلاعه ، { وبث } أي : نشر { منهما رجالاً كثيرًا ونساء } أي : نشر من تلك النفس الواحدة بنين وبنات . قال البيضاوي : واكتفى بوصف الرجال بالكثرة عن وصف النساء ، إذْ الحكمة تقتضي أن يكنَّ أكثر ، وذكر : { كثيرًا } حملاً على الجمع ، وترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة التي من حقها أن تُخشى والنعمة الباهرة التي توجب طاعة مولاها . هـ . { واتقوا الله الذي تساءَلون به } أي : يسأل بعضكم بعضَا فيقول : أسألك بالله العظيم ، { والأرحام } أي : واتقوا الأرحام فلا تقطعوها ، فمن قطعها قعطه الله ، ومن وصلها وصله الله ، كما في الحديث . أو تساءلون به وبالأرحام ، فيقول بعضكم لبعض : أسألك بالرحم التي بيني وبينك ، أو بالقرابة التي بيني وبينك . ثم هددهم على ترك ما أُمروا به فقال : { إن الله كان عليكم رقيباً } حافظًا مطلعًا شهيدًا عليكم في كل حال . الإشارة : درجهم في آخر السورة في مدارج السلوك حتى زجَّهم في حضرة ملك الملوك ، وأمرهم أن يتقوا ما يُخرجهم عن مشاهدة ظلمة أنوار الربوبية ، ثم دلاهم في أول السورة إلى التنزل لآداب العبودية بشهود آثار القدرة الإلهية ، في النشأة الأولية ، ليعلَّمهم الجمع بين آداب المراقبة ودوام المشاهدة ، أو بين الفناء والبقاء . وقد تكلم ابن جزي هنا على أحكام المراقبة ، فقال : إذا تحقق العبد بهذه الآية وأمثالها ، استفاد مقام المراقبة ، وهو مقام شريف أصله علم وحال ، ثم يثُمر حالين . أما العلم : فهو معرفة العبد بأن الله مطلع عليه ، ناظر إليه في جميع أعماله ، ويسمع جميع أقواله ، ويعلم كل ما يخطر على باله . وأما الحال : فهو ملازمة هذا العلم بالقلب ، بحيث يغلب عليه ولا يغفل عنه . ولا يكفي العلم دون هذه الحال ، فإذا حصل العلم والحال كانت ثمرتهما عند أصحاب اليمين : الحياء من الله ، وهو يوجب بالضرورة ترك المعاصي والجد في الطاعات ، وكانت ثمرتهما عند المقربين : المشاهدة ، التي توجب التعظيم والإجلال لذي الجلال . وإلى هاتين الثمرتين أشار الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله " أن تعبدَ اللهَ كأنكَ تَراه فإنْ لم تكنْ تَراه فإنه يَراك " ، فقوله : " أن تعبد الله كأنك تراه " إشاره إلى الثمرة الثانية ، وهي الموجبة للتعظيم ، كمن يشاهد ملكًا عظيمًا فإنه يعظمه إذ ذاك بالضرورة ، وقوله : " فإن لم تكن تراه فإنه يراك " إشارة إلى الثمرة الأولى ، ومعناه : إن لم تكن من أهل المشاهدة ــ التي هي مقام المقربين ــ فاعلم أنه يراك ، فكن من أهل الحياء الذي هو مقام أصحاب اليمين ، فلما فسر الإحسان أول مرة بالمقام الأعلى ، ورأى أن كثيرًا من الناس قد يعجزون عنه ، تنزل منه إلى المقام الآخر . واعلم أن المراقبة لا تستقيم حتى تتقدم قبلها المشارطة والمرابطة ، ويتأخر عنها المحاسبة والمعاتبة ، فأما المشارطة فهي اشتراط العبد على نفسه التزام الطاعة ، وترك المعاصي ، وأما المرابطة فهي معاهدة العبد لربه على ذلك ، ثم بعد المشارطة والمرابطة في أول الأمر تكون المراقبة … الخ . وبعد ذلك يحاسب العبدُ نفسَه على ما اشترطه وعاهد عليه ، فإن وجد نفسه قد وفَّى بما عاهد عليه الله يحمد الله ، وإن وجد نفسه قد حلَ عَقد المشارطة ونقض عهد المراقبة ، عاقب النفس عقابًا شديدًا بزجرها عن العودة إلى مثل ذلك ، ثم عاد إلى المشارطة والمرابطة ، وحافظ على المراقبة ، ثم اختبر بالمحاسبة ، وهكذا يكون إلى أن يلقى الله تعالى . انتهى كلامه ، وهو مقتبس من الإحياء . والله تعالى أعلم .