Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 13-17)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { هو الذي يُريكم آياته } الدالة على كبريائه ، وكمال قدرته ، من الرياح ، والسحاب ، والرعد ، والبرق ، والصواعق ، وغير ذلك ، لتستدلوا على ذلك ، وتعملوا بموجبها ، فتُوحدوه تعالى ، وتخصُّوه بالعبادة ، { ويُنزّل لكم من السماء رزقاً } مطراً لأنه سبب الرزق . وأفرده بالذكر مع كونه مِن جملة الآيات لتفرُّده بكونه من آثار رحمته ، وجلائل نِعَمه الموجبة للشكر إذ به قوام الحيوانات بأسرها . وصيغة المضارع في الفعلين للدلالة على تجدُّد الإراءة والتنزيل ، واستمرارهما . { وما يتذكَّرُ إِلا مَن يُنيب } أي : وما يتعظ ويعتبر بهذه الآيات الباهرة ، ويعمل بمقتضاها إلا مَن يتوب ويرجع عن غيّه إلى الله تعالى ، فيتفكّر فيما أودعه في تضاعيف مصنوعاته من شواهد قدرته الكاملة ، ونِعَمه الشاملة . وأما المعاند فلا يتعظ ولا يعتبر لسفح الران على قلبه . وإذا كان الأمر كما ذكرنا ، من اختصاص التذكير بمَن ينيب ، { فادْعُوا الله } ، أو : تقول : لَمَّا ذكر أحوال المشركين ، وأراد أن يشفع بأضدادهم ، جعل قوله : { هو الذي يُريكم آياته … } الخ ، توطئة لقوله : { فادعوا الله } أي : اعبدوه { مخلِصين له الدين } من الشرك الجلي والخفي ، بموجب إنابتكم إليه تعالى وإيمانكم ، { ولو كَرِه الكافرون } وإن غاظ ذلك أعداءكم ، ممن لم يتب مثلكم ، فإن الله يُكرم مثواكم ، ويرفع درجاتكم ، فإنه { رفيعُ الدرجات } أي : رافع درجات أوليائه المؤمنين ، الداعين إليه ، المخلصين في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالعز والنصر ، وفي الآخرة بالقُرب والاختصاص ، أو : رفيع السموات التي هي مصاعد الملائكة ، ومهابطها ، للسفارة بين المرسِل والمرسَل إليه ، وهو كالمقدمة لقوله : { يُلقي الروح … } الخ . هذا على أنه اسم فاعل ، مبالغة ، وقيل : هو صفة مشبهة أُضيفت إلى فاعلها ، أي : رفيعٌ درجاتُه بالعلو والقهرية . { ذو العرش } أي : مالكه ، وهما خبران آخران عن { هو الذي … } الخ ، إيذاناً بعلو شأنه ، وعِظم سلطانه ، الموجبين لتخصيص العبادة به ، وإخلاص الدين له بطريق الاستشهاد بهما عليهما فإنَّ ارتفاع الدرجات والاستيلاء على العرش مع كون العرش محيطاً بأكناف العالم العلوي والسفلي ، وهو تحت ملكوته وقبضة قهره مما يقضي بكون علو شأنه وعظيم سلطانه في غاية لا غاية ورائها . قاله أبو السعود . ثم ذكر سبب رفع الدرجات بقوله : { يُلقي الروح } أي : ينزل الوحي ، الجاري من القلوب بمنزلة الروح من الأجسام ، وكأنه لَمَّا ذكر رزق الأجسام أتبعه برزق الأرواح ، الذي هو العلم بالله ، وطريقُه الوحي . والتعبير بالمضارع ، قال الطيبي : يفيد استمرار الحي من لدن آدم إلى زمن سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم اتصاله إلى قيام يوم التنادي ، بإقامة مَن يقوم بالدعوة ، على ما روى أبو داود ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إِنَّ اللهَ سَيَبْعَثُ لهذه الأمة على رأسِ كلِّ مائةِ سنَة مَن يُجَدِّدُ لها دِينَها " ومعنى التجديد : إحياء ما اندرس من العمل بالكتاب والسُنَّة ، والأمر بمقتضاهما . هـ . قلت : وقد رزتُ شيخنا البوزيدي رضي الله عنه مرة ، فلما وقع بصره عليّ ، قال : واللهِ ، حتى يُحْيي الله بك الدين المحمدي . وكتب لي شيخ الجماعة ، وقطب دائرة التربية ، مولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه ، فقال في آخر كتابه : وأرجو من الله ألا تموت حتى تكون داعياً إلى الله ، تُذكّر أهل المشرق والمغرب . أو ما هذا معناه ، وقد وقع ذلك ، والحمد لله . وقوله : { مِنْ أَمره } أي : من قضائه ، أو : بأمره ، فيجوز أن يكون حالاً من الروح ، أو متعلقاً بـ يُلقِي أي : يُلقِي الروح حال كونه ناشئاً ، أو : مبتدئاً من أمره ، أو : يُلقي الوحي بسبب أمره { على مَن يشاءُ من عباده } هو الذي اصطفاه لرسالته ، وتبليغ أحكامه إلى عباده ، { ليُنذر } أي : الله ، أو : المُلْقَى عليه ، وهو النبي عليه السلام ، ويؤيده قراءة يعقوب بالخطاب ، أي : لتخوُّف { يومَ التلاقِ } يوم القيامة لأنه يتلاقى فيه أهل السموات وأهل الأرض ، والأولون والآخرون ، و يوم : ظرف للمفعول الثاني ، أي : ليُنذر الناسَ العذابَ يوم التلاق ، أو : مفعول ثان ليُنذر ، فإنه من شدة هوله وفظاعته حقيق بالإنذار . { يوم هم بارزون } : بدل من " يوم التلاق " أي : خارجون من قبورهم ، أو : ظاهرون ، لا يستترون بشيء من جبل أو أكمة أو بناء لكون الأرض يومئذ قاعاً صفصفاً ، ولا عليهم ثياب ، إنما هم حفاةٌ عراةٌ ، كما في الحديث . أو : بارزة نفوسهم لا يحجبها غواش الأبدان ، أو : بارزة أعمالهم وسرائرهم ، { لا يخفى على الله منهم شيءٌ } من أعمالهم وأحوالهم ، الجلية والخفية ، السابقة واللاحقة ، وهو استئناف لبيان بُروزهم ، وإزاحة لِما كان يتوهمه المتوهمون في الدنيا من الاستتار توهماً باطلاً ، فإذا برزوا وحُشروا ، نادى الحق جلّ جلاله : { لمَن الملكُ اليومَ } ؟ فلا يجيبه أحد ، ثم يعود ثلاثاً ، فيجيب نفسه بنفسه بقوله : { لله الواحدِ القهارِ } أي : الذي قهر العباد بالموت . رُوي أن الله تعالى يجمع الخلائق في صعيد واحد ، في أرض بيضاء ، كأنها سبيكة فضة ، لم يُعصَ الله عليها قط ، فأول ما يُتكلم به أن يُنادي مناد : لِمن المُلكُ اليوم ؟ فيجيب نفسه : " لله الوحد القهّار " . وقيل : المجيب أهلُ المحشر ، ورُوي أيضاً : أن هذا القول يقوله الحق تعالى عند فناء الخلق وقبل البعث ، ولعله يقال مرتين . قال تعالى : { اليوم تُجزَى كلُّ نَفْس } من النفوس البرّة والفاجرة ، { بما كسبتْ } من خير أو شر ، وهذا من تتمة الجواب ، أو : حكاية لما سيقوله تعالى يومئذ عقب السؤال والجواب ، { لا ظُلمَ اليومَ } بنقص ثواب أو زيادة عذاب ، { إِن الله سريعُ الحساب } لأنه لا يشغله شأن عن شأن ، فكما أنه يرزقهم دفعة ، يُحاسبهم دفعة ، فيحاسب الخلق قاطبة في أقرب زمان ، كما نُقل عن ابن عباس : أنه تعالى إذا أخذ في حسابهم لم يقِلْ أهلُ الجنة إلا فيها ، وأهل النار إلا فهيا . هـ . قلت : المراد بالحساب : إظهار ما يستحق كل واحد من النعيم أو العذاب ، وأما ما ورد من طول المكث في المحشر على الكفار والفجّار فإنما ذلك تعذيب بعد فراغ المحاسبة . والله تعالى أعلم . الإشارة : هو الذي يُريكم آياته الدالة على توحيده ، ويُنزل لكم من سماء الغيوب علماً ، تتقوّت به قلوبكم وأرواحكم ، فتغيبون في مشاهدة المدلول عن الدليل ، وما يتذكّر بهذا ويهتدِ إليه إلا مَن يُنيب ، ويصحب أهل الإنابة . فادعوا الله ، أي : اعبدوه وادعوا إلى عبادته وإخلاص العمل ، ولو كره الجاحدون ، فإنَّ الله رفيع درجاتِ الداعين إليه مع المقربين ، في مقعد صدق عند ذي العرش المجيد . قال القشيري : يرفع درجات المطيعين بظواهرهم في الجنة ، ودرجات العارفين بقلوبهم في الدنيا ، فيرفع درجتهم عن النظر إلى الكونين ، والمساكنة إليهما ، وأما المحبُّون فيرفع درجتهم عن أن يطلبوا في الدنيا والعقبى شيئاً غير رضا محبوبهم . هـ . يُلْقِي الروح من أمره على مَن يشاء من عباده ، هو وحي أحكام للأنبياء ، ووحي إلهام للأولياء ، فيحيي الله بهم الدين في كل زمان ، وقال القشيري : بعد كلام : ويقال : روح النبوة ، وروح الرسالة ، وروح الولاية ، وروح المعرفة . هـ . والمراد بالروح : مطلق الوحي ، ليُنذر الداعي يومَ التلاقي ، فيحصل اللقاء السرمدي مع الحبيب للمقربين ، ويحصل الافتراق والبُعد للغافلين ، حين تبرز الخلائق بين يدَي الله ، لا دعوى لأحد يومئذ ، فيقول الحق تعالى : { لمَن الملك اليوم لله الواحِد القهَّار } . قال القشيري : لا يتقيّد مُلْكُه بيومٍ ، ولا يختصُّ بوقتٍ ، ولكنَّ دَعَاوَى الخلقِ اليوم لا أصلَ لها ، ترتفع غداً ، وتنقطع تلك الأوهام . هـ . ومثله في الإحياء ، وأنه إذا كشف الغطاء شهد الأمر كذلك ، كما كان كل يوم ، لا في خصوص ذلك اليوم . فإذا حصل للعبد مقام الفناء ، لم يرَ في الدارين إلا الله ، فيقول : لمَن المُلكُ اليوم ؟ فيجيب : لله الواحدِ القهّار . اليوم تُجزَى كُلُّ نفس بما كسبت من التقريب أو الإبعاد . قال القشيري : يجازيهم على أعمالهم الجنانَ ، وعلى أحوالهم الرضوان ، وعلى أنفاسهم أي : على حفظ أنفاسهم القُرب ، وعلى محبتهم الرؤية ، ويجازي المذنبين على توبتهم الغفران ، وعلى بكائهم الضياء والشفاء . هـ . لا ظُلم اليوم ، بل كل واحد يرتفع على قدر سعيه اليوم . وقوله تعالى : { إِنَّ الله سريعُ الحساب } قال القشيري : وسريعُ الحساب مع أوليائه في الحال ، يُطالبهم بالنقير والقطمير . هـ . قلت : يدقق عليهم الحساب في الحال ، ويرفع مقدارهم في المآل . وبالله التوفيق . ثم حذَّر من هول ذلك اليوم ، فقال : { وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ ٱلأَزِفَةِ إِذِ ٱلْقُلُوبُ } .