Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 18-20)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وأنذِرْهُم يوم الأَزفةِ } أي : القيامة ، سُميت بها لأزوفها ، أي : قُربها . فالأُزوف والازدلاف هو القرب ، غير أن فيه إشعاراً بضيق الوقت ، أو الخطة الأزفة ، وهي مشارفة أهل النار لدخولها ، ثم أبدل من يوم الآزفة قوله : { إِذِ القلوبُ لدى الحناجر } أي : التراقي ، يعني : ترتفع قلوبُهم عن مقارّها ، فتلتصق بحناجرهم من الرعب ، فلا هي تخرج فيموتوا فيستريحوا ، ولا ترجع إلى مقارها فيتروّحوا . حال كونهم { كاظمين } ممسكين الغيظ بحناجرهم ، أو : ممسكين قلوبهم بحناجرهم ، يرومون ردها لئلا تخرج ، فهو حال من القلوب ، وجمعت جمع السلامة لوصفها بالكظم ، وهو من أوصاف العقلاء ، أو : من أصحاب القلوب إذ الأصل : قلوبهم ، أو : من ضميرها في الظرف ، { ما للظالمين من حميمٍ } أي : قريب مشفق { ولا شفيعٍ يُطاع } أي : ولا شفيع تُقبل شفاعته ، فالمراد : نفي الشفاعة والطاعة ، كقول الشاعر : @ وَلاَ تَرَى الضّبَّ فيها يَنْجَحِرْ @@ يريد به : نفي الضب وانجحاره . وكقول الآخر : @ عَلَى لاحِبٍ لا يُهتدَى بِمَنَارِه @@ وإن احتمل اللفظ نفي الطاعة دون الشفاعة . فعن الحسن البصري : " والله ما يكون لهم شفيع ألْبتة " . ووضع " الظالمين " موضع الضمير للتسجيل عليهم بالظلم وتعليل الحكم به . { يعلم خائنةَ الأعين } أي : النظرة الخائنة ، كاستراق النظر إلى ما لا يحلّ . قيل : فيه تقديم وتأخير ، أي : الأعين الخائنة ، وقيل : مصدر ، كالعافية ، أي : خيانة الأعين . قال ابن عباس رضي الله عنه : هو الرجل يكون جالساً مع القوم ، فتمر المرأة ، فيسارقهم النظر إليها . هـ . وقال ابن عطية : متصل بقوله : { سريع الحساب } ، فيحاسب على خيانة الأعين ، وقالت فرقة : متصل بقوله : { لا يَخفى على الله منهم شيء } ، وهذا حسن ، يُقويه تناسب المعنيَيْن ، ويُبعده بعدُ الآية من الآية ، وكثرة الحائل . والحاصل : أنه متصل بما تقدّم من ذكر الله ووصفه ، واعترض في أثناء ذلك بوصف القيامة لما استطرد إليه من قوله : { ليُنذر يوم التلاق } الآية . قاله المحشي . { و } يعلم { ما تُخفي الصدورُ } أي : ما تُكنّه من خيانة وأمانة . وقيل : هو أن ينظر إلى أجنبية بشهوةٍ مسارقة ، ثم يتفكّر بقلبه في جمالها ، ولا يعلم بنظرته وفكرته مَن حَضرَه ، والله يعلم ذلك كله . { والله يقضي بالحق } أي : ومَن هذه صفاتُه لا يقضي إلا بالعدل ، فيُجازي كُلاًّ بما يستحقه إذ لا يخفى عليه خفيّ ولا جليّ ، { والذين يَدْعُون } يعبدونهم { من دونه } من الآلهة { لا يقضون بشيء } ، وهذا تهكُّم بهم لأن الجماد الذي لا يعقل لا يقال فيه : يقضي ولا يقضي ، وقرأ نافع بالخطاب أو : على إضمار " قل " ، { إِن الله هو السميعُ البصير } تقرير لقوله : { يعلم خائنة الأعين وما تُخفي الصدور } ووعيد لهم لأنه يسمع ما يقولون ، ويُبصر ما يعملون ، وأنه يعاقبهم عليه ، وتعريض بما يدعون من دون الله ، بأنها لا تسمع ولا تُبصر . الإشارة : قال القشيري : قيامةُ الكل مؤجَّلة ، وقيامةُ المحبين مُعَجَّلة ، في كلِّ نَفَسٍ من العتاب والعذاب ، والبعَاد والاقتراب ، ما لم يكن في حساب ، وشهادة الأعضاء بالدمع تشهد ، وخفَقَانُ القلب ينطق ، والنحولُ يُخْبِرُ ، واللونُ يفضح ، والعبد يستر ، ولكن البلاء يُظهر ، قال : @ يَا مَن تَغَيَّرُ صُورَتِي لَمَّا بَدا لِجَمِيعِ ما ظَنوا بِنَا تَحْقِيقُ @@ وقوله تعالى : { إِذِ القلوبُ لدى الحناجرِ كاظمين } ، هو في حق مَن فاته التأهُّب والترقِّي في هذه الدار ، فتحسَّر حين يُعاين مقامات الرجال ، وليس له شفيع يُرقيه ، ولا حميم يُصافيه . وقوله تعالى : { يعلم خائنة الأعين } هو في حق العارفين : النظر إلى السِّوى بعين الاستحسان . قال القشيري : خائنة الأعين هي من المحبين استحسانهم شيئاً أي : من السِّوى وأنشدوا : @ يَا قُرَّةَ العَيْن : سَلْ عَيني هَلْ اكْتَحَلَتْ بِمَنْظَرٍ حَسَنٍ مُذْ غِبْتَ عَنْ عَيْنِي ؟ @@ وأنشد أيضاً : @ وعَيْني إِذا اسْتَحْسَنَتْ غَيْرَكُمْ أَمَرْتُ الدَّمعَ بِتأدِيبها @@ قلت : ومثله قول الشاعر : @ وناظرٌ في سِوى مَعْناكَ حُقَّ لَهُ يَقتَصُّ مِنْ جَفْنِه بالدَّمْع وهُو دَمُ والسَّمْعُ إِنْ حَالَ فِيهِ ما يُحدِّثُه سوَى حَدِيثكِ ، أَمْسى وَقْرُه الصَّمَمُ @@ ثم قال : ومن خائنة الأعين : أن تأخذهم السِّنَةُ والسِّنات في أوقات المناجاة ، وفي قصص داود عليه السلام : " كَذَبَ مَن ادَّعَى محبتي ، فإذا جَنَّهُ الليل نام عني ، ومن خائنة أعين العارفين : أن يكون لهم خير ، أي : استحسان يقع لقلوبهم مما تقع عليه أعينهم ، ينظرون ولكن لا يُبصرون أي : ينظرون إلى المستحسنات ، ولكن لا يقفون معها ومن خائنة أعين الموحِّدين أي : السائرين للتوحيد أن يخرج منها قطرة دمعٍ ، تأسفاً على مخلوق يفوت من الدنيا والآخرة ، ومن خائنة الأعين : النظرُ إلى غير المحبوب بأَي وجهٍ كان ، ففي الخبر : " حُبَّكَ الشيء يُعْمِي ويُصمُّ " أي : يُغَيبك عن غيره ، فلا ترى إلا محاسن الحبيب ، وجماله في مظاهر تجلياته ، وإليه يشير قول ابن الفارض رضي الله عنه : @ عَيْنِي لِغَيْرِ جَمَالِكُمْ لاَ تَنْظر وَسِوَاكُم في خَاطِري لاَ يَخْطُر @@ وقوله تعالى : { والله يقضي بالحق } قال القشيري : يقضي للأجانب بالبعاد ، ولأهل الوداد بالوصال ، ويقضي يومَ القدوم بعدل عُمال الصدود . هـ . أي : يعدل في أهل الصدود عن حضرته ، فيجازيهم بنعيم الأشباح فقط . ثم قال : وإذا ذبح الموت غدا بين الجنة والنار على صورة كبش أملح ، فلا غَرو أن يذبح الفراق على رأس سكة الأحباب ، في صورة شخص ، ويُصلب على جذوع الغيرة ، لينظر إليه أهل الحضرة . هـ . ثم أمر بالتفكُّشر الذي هو طريق النجاة من كل ضرر فقال : { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ فِي ٱلأَرْضِ } .