Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 1-4)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { حم } أي : يا محمد . فاقتصر على بعض الحروف ، ستراً عن الوشاة ، كعادة العُشاق في ذكر محبوبهم ، يرمزون إليه ببعض حروفه . وقال ابن عطية : سأل أعرابي النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن " حم " ما هو ؟ فقال : " بدء أسماء وفواتح سور " وفي حديث : " إذا بُيتّم فقولوا : حم لا يُنصرون " قال أبو عبيد : كأن المعنى : اللهم لا ينصرون . قلت : لا يبعد أن يكون توسل بحبيب الله على هزم الأعداء . وعن ابن عباس : أنه اسم الله الأعظم . هـ . وكأنه مختصر من " حي قيوم " . { تنزيلُ الكتاب } أي : هذا تنزيل القرآن { من الله العزيزِ العليم } أي : العزيز بسلطانه ، الغالب على أمره ، العليم بمَن صدّق به وكذّب . وهو تهديد للمشركين ، وبشارة للمؤمنين . والتعرُّض لوصفي العزة والعلم للإيذان بظهور أثريهما في الكتاب لظهوره عزِه وعز مَن تمسّك به ، ولاشتماله على علوم الأولين والآخرين . { غافر الذنبِ } أي : ساتر ذنب المؤمنين { وقابلِ التَّوْبِ } وقابل توبةَ الراجعين { شديدِ العقاب } للمخالفين ، { ذي الطَّوْلِ } على العارفين ، أي : الفضل التام على العارفين ، أو : ذي الغنى عن الكل . وعن ابن عباس : غافر الذنب ، وقابل التوب ، لمَن قال : " لا إله إلا الله " شديد العقاب لمَن لم يقل لا إله إلا الله . والتَّوب : مصدر ، كالتوبة . ويقال : تاب وثاب وآب ، أي : رجع ، فإن قلتَ : كيف اختلفت هذه الصفات تعريفاً وتنكيراً ، والموصوف معرفة ، وهو الله ؟ قلتُ : أما { غافر الذنب وقابل التَّوب } فمعرفتان لأنه لم يُرِدْ بهما حدوث الفعلين حتّى يكون في تقدير الانفصال ، فتكون إضافتهما غير حقيقية ، وإنما أُريد ثُبوت ذلك ودوامه . وأما { شديد العقاب } فهو في تقدير : شديد عقابُه ، فيكون نكرة ، فقيل : هو بدل ، وقيل : كلّها أبدال غير أوصاف . وإدخال الواو في { قابل التوب } لنكتة ، وهي : إفادة الجمع للمذنب التائب بين رحمتين : بين قبول توبته ، فتُكتب له طاعة ، وبين جعلها ماحية للذنوب ، كأن لم يُذنب ، كأنه قال : جامع المغفرة والقبول . وفي توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات النعمة دليل سبقها ورجحانها ، " إن رحمتي سبقت غضبي " . قال القشيري : سُنَّةُ اللهِ تعالى : إذا خَوَّف العبادَ باسْمٍ ، أو لفظٍ ، تدارَكَ قلوبَهم بأن يُبشِّرهم باسْمَين أو وَصْفيْن . هـ . رُوي : أن عمر رضي الله عنه افتقد رجلاً ذا بأسٍ شديد ، من أهل الشام ، فقيل له : تابَع هذا الشراب ، فقال لكاتبه : اكتب : من عمر إلى فلان ، سلام الله عليك ، وأنا أحمد إليك الله ، الذي لا إله إلا هو ، بسم الله الرحمن الرحيم { حم … } إلى قوله : { إِليه المصير } وختم الكتاب ، وقال لرسوله : لا تدفعه إليه حتى تجده صاحباً ، ثم أمر مَن عنده بالدعاء له بالتوبة ، فلما أتته الصحيفة ، جعل يقرؤها ، ويقول : قد وعدني الله أن يغفر لي ، وحذّرني من عقابه ، فلم يبرح يردّدها حتى بكى . ثمّ نزع ، فأحسن النزوع ، وحسنت توبته . فلما بلغ عمر رضي الله عنه أمرُه ، قال : " هكذا فاصنعوا ، إذا رأيتم أخاكم قد زلَّ فسدّدوه ، وادعوا له الله أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه " أي : بالدعاء عليه . هـ . { لا إِله إلا هو } أي : فيجب الإقبال الكلي عليه ، وهو : إما استئناف ، أو : صفة لذي الطَّوْل ، { إِليه المصيرُ } أي : المرجع ، فيُجازي كُلاًّ من العاصي والمطيع . قال القشيري : إذا كان إلى الله المصير فقد طاب المسير . { ما يُجادل في آيات الله } أي : ما يُخاصم فيها بالطعن فيها ، واستعمال المقدمات الباطلة لإدحاض الحق المشتملة عليه ، { إِلا الذين كفروا } ، وأما الذين آمنوا فلا يخطر ببالهم شائبة شُبهة منها ، فضلاً عن الطعن فيها ، وأما الجدال فيها لحل مشكلاتها ، وكشف حقائقها ، وتوضيح مناهج الحق منها ، وردّ مذاهب أهل الزيغ بها ، فمِن أعظم الجهاد في سبيل الله . قال الطيبي : وأما اتصال قوله : { ما يُجادل في آيات الله … } الآية بما قبله ، فهو أنه لَمَّا قال تعالى : { حم تنزيل الكتاب } من الإله المعبود ، الموصوف بصفات العلم الكامل ، والعز الغالب ، الجامع بين غفران الذنب وقبول التوبة ، المتفرّد بالعقاب ، الذي لا يقدّر كنهه ، وبالإفضال الذي لا يبلغ قدره ، قال : { ما يُجادل في آيات الله } أي : ما يجادل في مثل هذا الكتاب ، المشتمل على الآيات البينات ، المنزل من مثل ذلك الموصوف بنعوت الكمال ، إلا أمثال هؤلاء الكفرة المغرورين ، { فلا يَغْرُرْكَ نَقَلُبُهم في البلاد } فإنه استدراج ، فلا يَغْرُر مثلك في منصب الرسالة تقلُبُ أولئك تقلبَ الأنعام ، المنعَّمين في هذا الحطم . وآيات الله : مُظْهَر أقيم المُضمر للتعظيم والتفخيم . هـ . والفاء لترتيب النهي عن الاغترار على ما قبله من التسجيل عليهم بالكفر ، الذي لا شيء أمقت منه عند الله ، ولا أجلب لخسران الدنيا والآخرة ، فإنَّ مَن تحقق ذلك لا يكاد يغتر بما لهم من الحظوظ الفانية ، والزخارف الدنيوية ، فإنهم مأخوذون عما قليل ، كما أُخذ من قبلهم . ولذلك ذكرهم بقوله : { كذبت … } الخ . الإشارة : " حم " أي : بحلمي ومجدي تجليت في كلامي ، المنزل على حبي ، وهو تنزيل الكتاب من الله العزيز ، المُعزّ لأوليائه ، العليم بما كان وما يكون منهم ، فلا يمنعه عِلمُه عما سَلَفَ من قضائه . غافرُ الذنب لمَن أَصَرَّ واجْتَرَم ، وقابلُ التوب لمَن تاب واحتشم ، شديد العقاب لمَن جَحَدَ وكفر ، ذي الطول لمَن توجه ووصل ، ويقال : غافر الذنب للغافلين ، وقابل التَّوب للمتوجهين ، شديد العقاب للمنكرين ، ذي الطول للعارفين الواصلين . لا إله إلا هو ، فلا موجود معه ، إليه المصير بالسير في ميادين النفوس ، حتى يحصل الوصول إلى حضرة القدوس . ما يُجادل في آيات الله ، وهم أولياء الله ، الدالون على الله ، إلا أهلُ الكفر بوجود الخصوصية . قال القشيري : إذا ظهر البرهانُ ، واتَّضح البيانُ استسلمَت الألبابُ الصاحيةُ للاستجابة والإيمان . وأمَّا أهلُ الكفر فلهم على الجحود إصرارٌ ، وشُؤْمُ شِرْكهم يحولُ بينهم وبين الإنصاف ، وكذلك مَن لا يحترم أولياء الله ، يُصرُّون على إنكارهم تخصيصَ الله عباده بالآيات ، ويعترضون عليهم بقلوبهم ، فيُجادلون في جَحْدِ الكرامات ، وسيفتضحون ، ولكنهم لا يُميزون بين رجحانهم ونقصانهم . هـ .