Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 7-9)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

قلت : { الذين } : مبتدأ ، و { يُسبّحون } : خبره ، والجملة : استئناف مسوق لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم ببيان أن أشراف الملائكة عليهم السلام مثابرون على ولاية مَن معه من المؤمنين ، ونصرتهم ، واستدعاء ما يُسعدهم في الدارين . يقول الحق جلّ جلاله : { الذين يحملون العرش } على عواتقهم وهم محمولون أيضاً بلطائف القدرة ، { ومَن حَوْله } أي : الحافِّين حوله ، وهم الكروبيّون ، سادات الملائكة ، وأعلى طبقاتهم . قال ابن عباس : حملة العرش ما بين كعب أحدهم إلى أسفل قدميه مسيرة خمسمائة عام ، وقيل : أرجلهم في الأرض السفلى ، ورؤوسهم خرقت العرش ، وهم خشوعٌ ، لا يرفعون طرفهم ، وهم أشد خوفاً من سائر الملائكة . وقال أيضاً : لمَّا خلق الله حملة العرش ، قال لهم : احملوا عرشي فلم يطيقوا ، فخلق الله مع كل ملك من أعوانهم مثل جنود مَن في السموات ومَن في الأرض مِن الخلق ، فقال لهم : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فخلق مع كل واحد منهم مثل جنود سبع سموات وسبع أرضين ، وما في الأرض من عدد الحصى والثرى ، فقال : احملوا عرشي ، فلم يطيقوا ، فقال : قولوا : لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، فقالوها ، فاستقلوا عرش ربنا ، أي : لَمَّا حملوه بالله أطاقوه ، فلم يحمل عرشه إلا قدرته ، وفي الحديث : " إن الله أمر جميع الملائكة أن يَغدُوا ، ويَرُوحوا بالسلام على حملة العرش ، تفضيلاً لهم على سائر الملائكة " . وقال وهب بن منبه : حول العرش سبعون ألف صف من الملائكة ، صف خلف صف ، يدورون حول العرش ، يطوفون به ، يُقبل هؤلاء ، ويُدبر هؤلاء ، فإذا استقبل بعضهم بعضاً ، هلّل هؤلاء ، وكبَّر هؤلاء ، ومِن ورائهم سبعون ألف صف قيام ، أيديهم إلى أعناقهم ، قد وضعوها على عواتقهم ، فإذا سمعوا تكبير هؤلاء وتهليلهم ، رفعوا أصواتهم ، فقالوا : سبحانك وبحمدك ما أعظمك وأجلَّك ، أنت الله لا إله غيرك ، أنت الأكبر ، الخلقُ كلهم راجون رحمتك ، ومِن وراء هؤلاء مائة ألف صف من الملائكة ، قد وضعوا اليمنى على اليسرى ، ليس منهم أحد إلا يُسبح الله تعالى بتسبيح لا يُسبحه الآخر ، ما بين جناحي أحدهم مسيرة ثلاثمائة عام ، واحتجب الله عزّ وجل بينه وبين الملائكة الذين هم حول العرش بسبعين حجاباً من ظُلمة ، وسبعين حجاباً من نور ، وسبعين حجاباً من دُرٍّ أبيض ، وسبعين حجاباً من ياقوتٍ أحمر ، وسبعين حجاباً من زمُردٍ أخضر ، وسبعين حجاباً من ثلجٍ ، وسبعين حجاباً من ماءٍ ، إلى ما لا يعلمه إلا الله تعالى . هـ . قلت : لمّا أظهر الله العرشَ تجلّى بنورٍ جبروتي رحموتي ، استوى به على العرش ، كما يتجلّى يوم القيامة لفصل القضاء ، ثم ضرب الحُجُب بين هذا التجلي الخاص وبين الملائكة الحافِّين ، ولا يلزم عليه حصر ولا تجسيم إذ تجليات الذات العالية لا تنحصر ، وليست هذه الحُجُب بين الذات الكلية وبين الخلق إذ لا حجاب بينها وبين سائر المخلوقات إلا حجاب القهر والوهم . واخْتُلف في هيئة العرش ، فقيل : إنه مستدير ، والكون كله في جوفه كخردلة في الهواء ، حتى قيل : هو الفلك التاسع ، وقيل : هو منبسط كهيئة السرير ، وله سواري وأعمدة ، وهو ظاهر الأخبار النبوية . رَوى جعفرُ الصادق عن أبيه عن جده ، أنه قال : إن بين القائمة من قوائم العرش والقائمة الثانية من خفقان الطير المسرعة قياس ألف عام ، وإن ملَكاً يقال له : حزقائيل ، له ثمانية عشر ألف جناح ، ما بين الجناح والجناح خمسمائة عام ، فأوحى الله إليه : أن طِرْ ، فطار مقدار عشرين ألف سنة ، فلم ينل رأسُه قائمةً من قوائم العرش ، ثم طار مقدار ثلاثين ألف سنة فلم ينلها ، فأوحى الله إليه : لو طرت إلى نفخ الصور لم تبلغ ساق عرشي . هـ . مختصراً . وفي حديث آخر : " إن بين القائمة والقائمة من قوائم العرش ستين ألف صحراء ، في كل صحراء ستون ألف عالم ، في كل عالم قدر الثقلين " ومع هذا كله يسعه قلب العارف حتى يكون في زاوية منه لأنه محدود ، وعظمة الحق غير محدودة ، وقلب العارف قد تجلّت فيه عظمة الحق ، فوسعها ، بدليل الحديث : " لن تسعني أرضي ولا سمائي ، ووسعني قلب عبدي المؤمن " أي : الكامل . ثم أخبر تعالى عن حَمَلة العرش ومَن حوله بقوله : { يُسَبِّحُونَ بحمد ربهم } أي : ينزهونه تعالى عما لا يليق بشأنه الجليل ، ملتبسين بحمده على نعمائه التي لا تتناهى ، { ويُؤمنون به } إيماناً يناسب حالهم . وفائدة ذكره مع علمنا بأن حملة العرش ومَنْ حوله الذي يُسبِّحون بحمد ربهم مؤمنون إظهار لشرف الإيمان وفضيلته ، وإبراز لشرف أهله ، والترغيب فيه ، كما وصف الأنبياء في بعض المواضع بالصلاح . وفيه تنبيه على أن الملائكة لم يحصل لهم العيان ، وإنما وًصفوا بالإيمان بالغيب ، وهم طبقات : منهم العارفون أهل العيان ، ومنهم أهل الإيمان . ثم قال تعالى : { ويستغفرون للذين آمنوا } أي : ويستغفرون لمَن شاركهم في حالهم من الإيمان ، وفيه دليل على أن الإشراك يجب أن يكون أدعى شيء إلى النصيحة والشفقة ، وإن تباعدت الأماكن ، وفي نظم استغفارهم لهم في سلك وظائفهم المفروضة عليهم ، من تسبيحهم ، وتحميدهم ، وإيمانهم ، إيذان بكمال اعتنائهم به ، وإشعار بوقوعه عند الله تعالى موقع القبول . { ربَّنا } أي : يقولون : ربنا ، إمّا بيان لاستغفارهم ، أو حال ، { وَسِعْتَ كلَّ شيء رحمةً وعلماً } أي : وسعت رحمتُك وعلمك كلَّ شيء ، فأزيل الكلام عن أصله ، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة والعلم ، ونُصبا على التمييز ، مبالغةً في وصفه تعالى بالرحمة والعلم ، وفي عمومهما ، وتقديم الرحمة لأنها السابقة والمقصودة هنا ، { فاغفرْ للذين تابوا } أي : للذين علمتَ منهم التوبة ، ليُناسب ذكر الرحمة ، { واتَّبعُوا سبيلَك } أي : طريق الهُدى التي دعوت إليها . والفاء لترتيب الدعاء على ما قبلها من سعة الرحمة والعلم ، { وَقِهِم عذاب الجحيم } أي : احفظهم منه ، وهو تصريح بعد إشعار للتأكيد . { ربنا وأَدْخِلهم جناتِ عدنٍ التي وعدتَّهم } إياها ، { ومَن صَلَحَ من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم } أي : صلاحاً مصححاً لدخول الجنة في الجملة ، وإن كانوا دون صلاح أصولهم ، و مَن : عُطف على ضمير وعدتهم ، أي : وأَدْخل معهم هؤلاء ليتم سرورهم ، ويتضاعف ابتهاجهم . قال سعيد بن جبير : يدخل الرجل الجنة ، فيقول : أين أبي ؟ أين أمي ؟ أين ولدي ؟ أين زوجتي ؟ فيقال له : لم يعملوا مثل عملك ، فيقول : كنتُ أعمل لي ولهم ، فيقال : أَدخلوهم الجنة . وسبق الوعد بالإدخال والإلحاق لا يستدعي حصول الموعود بلا توسُّط شفاعة واستغفار ، وعليه بنى قول مَن قال : فائدة الاستغفار للمنيب الكرامة والثواب . انظر أبا السعود . { إِنك أنت العزيزُ الحكيم } أي : الغالب الذي لا يمتنع عليه مقدور ، وأنت مع مُلكك وعزتك لا تفعل شيئاً خالياً عن حكمة ، وموجب حكمتك أن تفي بوعدك . { وقِهمْ السيئاتِ } أي : جزاء السيئات ، وهو العذاب ، أو المعاصي في الدنيا ، { ومَن تقِ السيئاتِ يومئذ فقد رَحِمْتَه } أي : ومَن تقه عقاب السيئات يومئذ فقد رحمته ، أو : ومَن تقه المعاصي في الدنيا فقد رحمته في الآخرة ، وكأنهم طلبوا لهم السبب بعدما طلبوا المسبّب ، { وذلك هو الفوزُ العظيم } الإشارة إلى الرحمة المفهومة من رحمته ، أو : إليها وإلى الوقاية ، أي : ذلك التوقي هو الفوز العظيم الذي لا مطمع وراءه لطامع . الإشارة : العرش وحملته ، والحافُّون به محمولون بلطائف القدرة لا حاملون في الحقيقة ، بل لا وجود لهم مع الحق ، وإنما هم شعاع من أنوار الذات الأقدس وتجلِّ من تجلياتها . وقوله تعالى : { يُسبحون بحمد ربهم } ، قال الورتجبي : يُسبّحون الله بما يجدونه من القدس والتنزيه ، حمداً لأفضالِه ، وبأنه منزّه عن النظير والشبيه ، ويؤمنون به في كل لحظة ، بما يرون منه من كشوف صفات الأوليات ، وأنوار حقائق الذات ، التي تطمس في كل لمحة مسالك رسوم العقليات ، وهم يُقرون كل لحظة بجهلهم عن كنه معرفة وجوده ، ثم بيّن أنهم أهل الرأفة ، والرحمة ، والشفقة على أوليائه ، لأنهم إخوانهم في نسب المعرفة والمحبة . انظر تمامه . والحاصل : أنهم مع تجلّي أنوار ذاته ، قاصرون عن كنهه ، وحقيقة ذاته ، وغايتهم الإيمان به ، قاله في الحاشية . قلت : والتحقيق أن المقربين منهم تحصل لهم المعرفة العيانية ، والرؤية للذات في مظاهر التجليات ، كما تحصل لخواص الأولياء في الدنيا ، ولكن معرفة الآدمي أكمل لاعتدال حقيقته وشريعته ، لمَّا اعتدل فيه الضدان ، وأما معرفة الملائكة فتكون مائلة لجهة الشكر والهيمان للطاقة أجسامهم ، فمثلهم كالمرآة بلا طلاء خلفها ، وأمّا ما ورد في بعض الأخبار : أن جبريل لم يرَ الله قط قبل يوم القيامة ، فلا يصح إلا أن يُحمل على أنه لم يره من غير مظهر ، وهذا لا يمكن له ولا لغيره ، وأما رؤيتهم الله يوم القيامة فهم كسائر المؤمنين ، يرونه على قدر تفاوتهم في المراتب والقُرب . قال إمام أهل السنة ، أبو الحسن الأشعري رضي الله عنه ، في كتاب " الإبانة في أصول الديانة " : أفضل اللذات لأهل الجنة رؤية الله تعالى ، ثم رؤية نبيه صلى الله عليه وسلم ، فلذلك لم يحرم الله أنبياءه المرسَلين ، وملائكته المقرّبين ، وجماعة المؤمنين ، والصدّيقين النظرَ إلى وجهه تعالى . هـ . وفي الآية حث على الدعاء للمؤمنين بظهر الغيب ، والاستغفار لهم ، وهو من شأن الأبدال ، أهل الحرمة لعباد الله ، اقتداءً بالملأ الأعلى . ثم شفع بضد أهل الإيمان ، فقال : { إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ يُنَادَوْنَ } .