Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 40, Ayat: 82-85)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أَفَلَمْ يسيروا } أي : أَقعدوا فلم يسيروا { في الأرض } { فينظروا كيف كان عاقبةُ الذين من قبلهم } من الأمم المهْلَكة ، { كانوا أكثرَ منهم } عدداً { وأشدَّ قوةً } في الأبدان والأموال ، { و } أشد { آثاراً في الأرض } أي : تركوا آثاراً كثيرة بعدهم ، من الأبنية ، والقبور ، والمصانع ، فكانوا أشدّ منهم ، وقيل : هي آثار أقدامهم في الأرض لِعظم أجرامهم ، { فما أَغْنى عنهم ما كانوا يَكْسِبون } أي : لم يغن عنهم ذلك شيئاً حين نزل بهم العذاب ، أو : أي شيء أغنى عنهم مكسوبهم أو كسبهم ؟ على أنَّ " ما " استفهام . { فلما جاءتهم رُسلهم بالبيناتِ } بالمعجزات الواضحة ، { فرحوا بما عندهم من العلم } يريد علمهم بأمور الدنيا ، ومعرفتهم بتدبيرها ، كما قال : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ } [ الروم : 7 ] ، فلما جاءتهم الرسل بعلوم الديانة ، والتأهُّب ليوم القيامة ، وهي أبعد شيء من علمهم لبعثِها على رفض الدنيا ، والتباعد عن تتبع ملاذها ، لم يلتفتوا إليها ، وصغّروها ، واستهزؤوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفؤاد من علمهم ، ففرحوا به . أو : علم التنجيم والفلسفة ، والدهريّين فإنهم كانوا إذا سمعوا بالوحي دفعوه ، وصغّروا علم الأنبياء إلى علمهم ، واعتقدوا عندهم علماً يستغنون به عن علم الأنبياء عليهم السلام ولما سمع بقراط بموسى عليه السلام قيل له : لو هاجرت إليه ! فقال : نحن قوم مهذَّبون ، فلا حاجة إلى مَن يُهذّبنا . ورأى بعضُ الصالحين النبيَّ صلى الله عليه وسلم فسأله عن ابن سيرين ، فقال له : " إِنه أراد أن يصل إلى الله بلا واسطة ، فانقطع عن الله " وعلى فرض وقوفهم بالتجريد والرياضة على انكشاف حضرة القدس ، فلا يظفرون بالعبودية ، ولا بالفناء في توحيد الربوبية ، والتخلُّص من لَوَث وجودهم ، والشأن أن تكون عين الاسم ، لا أن تعرف الاسم والعين ، إنما تقتبس من مشكاة مهبط الوحي ، وانصباب أنوار الغيب إنما تفيض بواسطة دُرة الوجود ، نبينا صلى الله عليه وسلم ، ومظهر سر العيان الأحدي الأحمدي ، فافهم . قاله شيخ شيوخنا ، سيدي عبد الرحمن الفاسي . قال تعالى : { وحاقَ بهم ما كانوا به يستهزئون } أي : نزل بهم عقوبة استخفافهم بالحق ، وتعظيمهم واغتباطهم بالباطل . { فلما رأوا بأسَنا } شدة عذابنا ، ومنه : { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } [ الأعراف : 165 ] ، { قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين } يعنون الأصنام . { فلم يَكُ ينفعهم إِيمانُهم لَمّا رأَوْا بأسَنَا } أي : فلم يستقم ، ولم يصح أن ينفعهم إيمانهم عند مجيء العذاب لأن النافع هو الإيمان الاختياري ، لا الاضطراري ، { سُنَّتَ اللهِ التي قد خلتْ في عباده } أي : سَنَّ اللهُ ذلك سُنَّة ماضية في عباده ، ألاَّ يُقبل الإيمان إلا قبل نزول العذاب . وهو من المصادر المؤكدة ، نحو : وعد الله ، ونحوه . { وخَسِرَ هُنالك الكافرون } أي : وقت رؤيتهم البأس . فهنالك : مكان استعير للزمان ، والكافرون خاسرون في كل أوان ، ولكن يتبيّن خسرانهم إذا عاينوا العذاب . وفائدة ترادف الفاءات في هذه الآيات : أن { فما أغنى عنهم } نيتجة قوله : { كانوا أكثر منهم } و { فلما جاءتهم رسلهم } كالبيان والتفسير لقوله : { فما أغنى عنهم } ، كقولك : رُزِق زيد المال ، فمَنَع المعروف ، فلم يحسن إلى الفقراء ، و { فلما رأوا بأسنا } تابع لقوله : { فلما جاءتهم } ، كأنه قال : فكفروا فلما رأوا بأسنا آمنوا . وكذلك { فلم يك ينفعهم إيمانهم } تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس الله ، والله تعالى أعلم . الإشارة : قد تقدّم مراراً الحث على عبادة التفكُّر . وقوله تعالى : { فلما جاءتهم رسلهم بالبينات فرحوا بما عندهم من العلم … } الآية ، كذلك مَن يَظهر بعلم التجريد ، ويتكلم في أسرار التوحيد ، سَخِرَ منه أهل زمانه ، ويقنعون بما عندهم من علم الرسوم الظاهرة ، وهو علم لا يُغني ولا يُفني لأن جله يتعلق بمنافع الناس ، لا بمنافع القلب ، فلا يُغني القلب ، ولا يُفني الحِس ، إنما ينفع لطالب الأجور ، لا لطالب الحضور ورفع الستور ، وما مثال مَن ظفر بعلم القلوب وهو أسرار التوحيد الخاص إلا كمَن عنده كنز من الفلوس ، ثم ظفر بالذهب الإبريز ، او الإكسير ، فكيف يمكن أن يلتفت إلى الفلوس مَن ظفر بالإكسير ؟ ! ولا يظهر هذا لأهل الظاهر إلا بعد موتهم ، فيؤمنوا به حيث لا ينفعهم . وبالله التوفيق ، وهو الهادي إلى سواء الطريق ، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلّم .