Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 41, Ayat: 19-24)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلَ جلاله : { و } اذكر { يوم نَحْشُرُ أعداء الله } من كفار المتقدمين والمتأخرين { إِلى النارِ فهم يُوزَعون } يُضمون ويُساقون إلى النار ، ويُحبس أولهم على أخرهم ، فيستوقف سوابقهم حتى تلحق بهم تواليهم ، وهي عبارةٌ عن كثرة أهل النار ، وأصله : من وزَعته ، أي : كففته . { حتى إِذا ما جاؤوها } أي : حضروها ، و " حتى " : غاية للحشر ، أو : ليوزعون ، و " ما " : مزيدة لتأكيد اتصال الشهادة بالحضور ، فبمجرد حضورهم { شَهِدَ عليهم سمعُهُم وأبصارُهم وجلودُهم } أي : بَشَراتهم { بما كانوا يعملون } في الدنيا ، من فنون الكفر والمعاصي ، بأن ينطقها الله تعالى ، ويظهرعليها آثار ما اقترفوا بها . وعن ابن عباس رضي الله عنه : أن المراد بشهادة الجلود : شهادة الفروج ، كقول الشاعر : @ أوَ سالم مَنْ قد تثــ ــــنَّى جِلْدُه وابْيَضَّ رَأسُه @@ فكنَّى بجلده عن فرحه ، وهو الأنسب لتخصيص السؤال بها في قوله تعالى : { وقالوا لجلودهم لمَ شهدتم علينا } ، فإن ما تشهد به من الزنا أعظم جناية وقُبحاً ، وأجلب للحزن والعقوبة ، مما تشهد به السمع والأبصار من الجنايات المكتسبة بتوسطها . روي : أن العبد يقول يوم القيامة : يا رب ، أليس قد وعدتني ألا تظلمني ؟ فيقول تعالى : فإن لك ذلك ، قال : فإني لا أقبل عليّ شاهداً إلا من نفسي ، قال تعالى : أوَ ليس كفى بي شهيداً ، وبالملائكة الكرام الكاتبين ؟ قال : فيُختم على فِيهِ ، وتتكلم أركانُه بما كان يعمل ، فيقول لهن : بُعْداً لكُنَّ وسُحْقاً ، عنكُنَّ كنتُ أُجادل " . { قالوا } في جوابهم : { وأنطقَنا اللهُ الذي أنطق كلَّ شيءٍ } من الحيوانات ، وأقدرنا على بيان الواقع ، فشهدنا عليكم بما عملتم من القبائح ، وما كتمناها . أو : ما نطقنا باختيارنا ، بل أنطقنا الله الذي انطق كل شيء . وقيل : سألوها سؤال تعجُّب ، فالمعنى حينئذ : وليس نطقنا بعجب من قدرة الله تعالى الذي أنطق كل شيء ، { وهو خلقكم أولَ مرةٍ وإليه تُرجعون } فإنَّ مَن قدر على خلقكم أول مرة ، وعلى إعادتكم ورجعكم إلى جزائه ، لا يتعجب من إنطاقه جوارحكم . ولعل صيغة المضارع ، مع أن هذه المحاورة بعد البعث والرجع ، كما أن المراد بالرجوع ليس مجرد الرد إلى الحياة بالعبث ، بل ما يعمه ، وما يترتب عليه من العذاب الخالد الترقب عند التخاطب ، على تغليب المتوقع على الواقع ، مع ما فيه من مراعاة الفواصل ، فهذا على أنه من تتمة كلام الجلود ، وقيل : هو من كلام الحق تعالى لهم ، فيُوقف على " شيء " وهو ضعيف . وكذا قوله : { وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعُكم ولا أبصارُكم ولا جلودُكم } ، يحتمل أن يكون من كلام الجلود ، أو : من كلام الله عزّ وجل وهو الظاهر ، أي : وما كنتم تستترون في الدنيا عند مباشرتكم الفواحش مخافة أن تشهد عليكم جوارحكم ، ولو خفتم من ذلك ما استترتم بها ، { ولكن ظننتم أنَّ الله لا يعلمُ كثيراً مما تعملون } من القبائح الخفية ، فلا يظهرها في الآخرة . وعن ابن مسعود رضي الله عنه : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فدخل ثلاثة نفر وثقفيان وقرشي ، أو : قرشيان وثَقَفي ، فقال أحدهم : أترون أن الله يسمع ما نقول ؟ قال الآخر : سمع جهرنا ولا يسمع ما أخفينا ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : { وما كنتم تستترون … } الآية ، فالحُكم المحكي حينئذ يكون خاصّاً بمَن كان على ذلك الاعتقاد من الكفرة ، انظر أبا السعود . { وذلكم ظنُّكم الذي ظننتم بربكم أرداكم } أهلككم ، فـ " ذلك " : مبتدأ ، و " ظنكم " : خبر ، و " الذي ظننتم بربكم " : صفة ، و " أرداكم " : خبر ثان ، أو : ظنكم : بدل من " ذلك " و " أرداكم " : خبر ، { فأصبحتم } بسبب الظن السوء { من الخاسرين } إذ صار ما منحوا لسعادة الدارين سبباً لشقاء النشأتين . { فإِن يصبروا فالنارُ مثوىً } مقام { لهم } أي : فإن يصبروا لم ينفعهم الصبر ، ولم ينفكوا به من الثوى في النار ، { وإِن يستعينوا } أي : يسألُوا العتبى وهو الاسترضاء { فما هم من المُعتَبين } المجابين إليها ، أي : وإن يطلبوا الاسترضاء من الله تعالى ليرضى عنهم ، فما هم من المرضين لما تحتّم عليهم واستوجبوه من السخط ، قال الجوهري : أعتبني فلان : إذا عاد إلى مسرتي ، راجعاً عن الإساءة ، والاسم منه : العتبى ، يقال استعتبته فأعتبني ، أي : استرضيته فأرضاني . وقال الهروي : إن يستقيلوا ربهم لم يقلهم ، أي : لم يردهم إلى الدنيا ، أو : إن أقالهم وردهم لم يعملوا بطاعته ، كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } [ الأنعام : 28 ] . الإشارة : أعداء الله هم الجاحدون لوحدانيته ولرسالة رسله ، وهم الذين تشهد عليهم جوارحهم ، وأما المؤمن فلا ، نعم إن مات عاصياً شهدت عليه البقع أو الحفظة ، فإن تاب أنسى الله حفظته ومعالمه في الأرض ذنوبه . قال في التذكرة : إن العبد إذا صدق في توبته أنسى اللهُ ذنوبه لحافظيه ، وأوحى إلى بقع الأرض وإلى جميع جوارحه : أن اكتموا مساوىء عبدي ، ولا تظهروها ، فإنه تاب إليَّ توبة صادقة ، بنية مخلصة ، فقبلته وتبتُ عليه ، وأنا التوّاب الرحيم . وفي الآية حث على حسن الظن بالله ، وفي الحديث : " لا يموتن أحدكم إلا وهو يُحسن الظن بالله عزّ وجل " وقال أيضاً : " يقول الله عزّ وجل : أنا عندَ ظنِّ عبدي بي … " الحديث فمَن ظنَّ خيراً لقي خيراً ، ومَن ظنّ شرّاً لقي شرّاً . وبالله التوفيق . ثم إن سبب الغواية أو الهداية هي الصحبة ، كما قال تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } .