Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 42, Ayat: 36-43)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فما أُوتيتم من شيءٍ } مما ترجون وتتنافسون فيه { فمتاعُ الحياةِ الدنيا } أي : فهو متاعها ، تتمتعون به مدة حياتكم ، ثم يفنى ، { وما عند الله } من ثواب الآخرة { خيرٌ } ذاتاً لخلوص نفعه ، { وأبقى } زماناً لدوام بقائه . { للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } ، و " ما " الأولى ضُمّنت معنى الشرط ، فدخلت في جوابها الفاء ، بخلاف الثانية . وعن عليّ رضي الله عنه : أن أبا بكر رضي الله عنه تصدَّق بماله كله ، فلامه الناس ، فنزلت الآية . ثم قال تعالى : { والذين يجتنبون كبائر الإثم } أي : الكبائر من هذا الجنس . وقرأ الأخوان : " كبير الإثم " . قال ابن عباس : هو الشرك ، { و } يجتنبون { الفواحِشَ } وهي ما عظم قُبحها ، كالزنى ونحوه ، { وإِذا ما غَضِبوا } من أمر دنياهم { هم يغفرون } أي : هم الإخِصَّاء بالغفران في حال الغضب ، فيحملون ، ويتجاوزون . وفي الحديث : " مَن كظم غيظه في الدنيا ردّ اللهُ عنه غضبَه يوم القيامة " . { والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة } أتقنوا الصلوات الخمس ، { وأمرُهُم شُورى بينهم } أي : ذو شورى ، يعني : لا ينفردون برأيهم حتى يجتمعون عليه . وعن الحسن : ما تشاور قوم إلا هُدوا لأرشد أمورهم . والشورى : مصدر ، كالفتيا ، بمعنى التشاور . { ومما رزقناهم يُنفقون } يتصدقون . { والذين إذا أصابهم البغيُ } الظلم { هم ينتصرون } ينتقمون ممن ظلمهم ، أي : يقتصرون في الانتصار على ما حُدّ لهم ، ولا يعتدون ، وكانوا يكرهو أن يذلُّوا أنفسَهم فيجترىء عليهم الفسّاق ، فإذا قدروا عفوا ، وإنما حُمدوا على الانتصار لأن من انتصر ، وأخذ حقه ، ولم يجاوز في ذلك حدّ الله ، فلم يسرف في القتل ، إن كان وليّ دم ، فهو مطيع لله . وقال ابن العربي : قوله : { والذين إذا أصابهم البغي … } الآية ذكر الانتصار في معرض المدح ، ثم ذكر العفو في معرض المدح ، فاحتمل أن يكونَ أحدهُما رافعاً للآخر ، واحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى حالين ، أحَدُهُما : أن يكون الباغي مُعلناً بالفجور وقحاً في الجمهور ، ومؤذياً للصغير والكبير ، فيكون الانتقامُ منه أفضل ، وفي مثله قال إبراهيم النخعي : يُكره للمؤمنين أن يُذِلُّوا أنفسهم ، فيجترىء عليهم الفُسّاق . وإما أن تكون الفَلتة ، أو يقع ذلك ممن يعترف بالزلة ، ويسأل المغفرة ، فالعفو ها هنا أفضل ، وفي مثله نزل : { وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى } [ البقرة : 277 ] ، { وَلْيَعْفُواْ وَلْيَصْفَحُواْ } [ النور : 22 ] الآية . هـ . ثم بيّن حدّ الانتصار ، فقال : { وجزاءُ سيئةٍ سيئةٌ مثلها } فالأولى سيئة حقيقة ، والثانية مجازاً للمشاكلة ، وفي تسميتها سيئة نكتة ، وهي الإشارة إلى أن العفو أولى ، والأخذ بالقصاص سيئة بالنسبة إلى العفو ، ولذلك عقبه بقوله : { فمَن عَفَا وأصلحَ } بينه وبين خصمه بالتجاوز والإغضاء { فأجره على الله } ، وهي عِدَةٌ مبهمة لا يقادر قدرها ، { إِنه لا يحب الظالمين } الذين يبدؤون بالظلم ، أو : يتجاوزون حدّ الانتصار . وفي الحديث : " ينادي منادٍ يوم القيامة : مَن كان له أجر على الله فليقم ، فلا يقوم إلا مَن عفا " . { ولمَن انتصرَ بعد ظلمه } أي : أخذ حقه بعدما ظُلم على إضافة المصدر إلى المفعول { فأولئك } جمع الإشارة مراعاة لمعنى " مَن " { ما عليهم من سبيلٍ } للمعاقب ولا للمعاتب { إِنما السبيل على الذين يظلمون الناسَ } يبتدئونهم بالظلم ، { ويبغون في الأرض } يتكبّرون فيها ، ويعْلون ، ويفسدون { بغير الحق أولئك لهم عذابٌ أليمٌ } بسبب بغيهم وظلمهم . وفسّر السبيل بالتبعة والحجة . { ولَمَن صَبَرَ } على الظلم والأذى ، { وغَفَرَ } ولم ينتصر ، أو : وَلَمَن صبر على البلاء من غير شكوى ، وغفر بالتجاوز عن الخصم ، ولا يُبقي لنفسه عليه دعوى ، بل يُبري خصمه من جهته من كل دعوى في الدنيا ، والعقبى ، { إِنَّ ذلك لَمِن عزم الأمور } أي : إن ذلك الصبر والغفران منه لَمِنْ عزم الأمور ، أي : من الأمور التي ندب إليها ، وعزم على فعلها ، أو : مما ينبغي للعاقل أن يوجبه على نفسه ، ولا يترخّص في تركه . وحذف الراجع أي : منه كما حذف في قولهم : السمن مَنْوَانِ بدرهم . وقال أبو سعيد القرشي : الصبر على المكاره من علامات الانتباه ، فمَن صبر على مكروه أصابه ، ولم يجزع ، أورثه الله تعالى حال الرضا ، وهو أصل الأحوال ومَن جزع من المصيبات ، وشَكى ، وكَلَه إلى نفسه ، ثم لم تنفعه شكواه . هـ . وانظر تحصيل الآية في الإشارة ، إن شاء الله . قال ابن جزي : ويظهر لي أن هذه الآية إشارة إلى ذكر الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم ، لأنه بدأ أولاً بصفات أبي بكر الصدّيق ، ثم صفات عُمَر ، ثم صفات عثمان ، ثم صفات عليّ بن أبي طالب ، فأما صفات أبي بكر ، فقوله : { الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون } وإنما جعلنا هذه صفات أبي بكر ، وإن كان جميعهم متصفاً بها ، لأن أبا بكر كانت له مزية فيها لم تكن لغيره ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لو وُزن إيمان أبي بكر بإيمان الأمة لرجح " وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة الإيمان ، وأبو بكر بابها " وقال أبو بكر : " لو كُشف الغطاء ما ازددت يقيناً " . والتوكل إنما يقوى بقوة الإيمان . وأما صفات عمر : فقوله : { والذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش } لأن ذلك هو التقوى ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أنا مدينة التقوى وعُمَر بابها " ، وقوله : { وإذا ما غَضبوا هم يغفرون } ، وقوله : { قل للذين آمنوا يغفروا للذين لا يرجونَ أيام الله } نزلت في عمر . وأما صفات عثمان فقوله : { والذين استجابوا لربهم } لأن عثمان كان كثير الصلاة بالليل ، وفيه نزلت : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَآءَ اللَّيْلِ سَاجِداً … } [ الزمر : 9 ] الآية . ورُوي أنه كان يُحيي الليلَ بركعة ، يقرأ فيها القرآن كله . وقوله : { وأمرهم شورى بينهم } لأن عثمان وَلِيَ الخلافة بالشورى ، وقوله : { ومما رزقناهم يُنفقون } لأن عثمان كان كثير النفقة في سبيل الله ، ويكفيك أنه جهّز جيش العسرة . وأما صفات عليّ فقوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } لأنه لمَّا قاتلته الفئة الباغية قاتلها ، انتصاراً للحق ، وانظر كيف سمى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم المقاتلين لعليّ الفئةَ الباغية ، حسبما ورد في الحديث الصحيح ، أنه قال لعمّار : " ويْحَ عمّارٍ ، تقتلُه الفئةُ الباغيةُ " وذلك هو البغي الذي أصابه ، وقوله : { فمَن عفا وأصلح فأجره على الله } إشارة إلى فعل الحسن بن عليّ ، حين بايع معاوية ، وأسقط حق نفسه ، ليصلح أحوال المسلمين ، ويحقن دماءهم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحسن : " إنَّ ابني هذا سَيِّدٌ ، وسَيُصْلِحُ اللهُ به بين فئتين عظيمتين من المسلمين " وقوله : { ولَمَن انتصر بعد ظلمه فأولئك ما عليهم من سبيل } إشارة إلى انتصار الحسين بعد موت أخيه ، وطلبه للخلافة ، وانتصاره من بني أمية . وقوله : { إنما السبيل على الذين يظلمون الناس } إشارة إلى بني أمية ، فإنهم استطالوا على الناس ، كما في الحديث : " إنهم جعلوا عباد الله خُوَلاً ، ومال الله دُولاً " ، فيكفيك من ظلمهم أنهم كانوا يلعنون عليّ بن أبي طالب على منابرهم ، وقوله : { ولمَن صبر وغفر } إشارة إلى صبر أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم على ما نالهم من الضر والذل ، طول مدة بني أمية . هـ . الإشارة : قوله تعالى : { فما أُوتيتم من شيءٍ فمتاع الحياة الدنيا } أي : وينقصُ من درجاتكم في الآخرة بقدر ما تمتعتم به ، كما في الخبر ، ولذلك زهَّد فيه بقوله : { وما عند الله خيرٌ وأبقى … } الآية ، أي : وما عند الله من الثواب الموعود خير من هذا القليل الموجود . { والذين يجتنبون كبائر الإثم } هي أمراض القلوب ، كالحسد والكبر والرياء وغيرها ، { والفواحش } هي معاصي الجوارح كالزنا وغيره . وقوله تعالى : { وإذا ما غَضِبُوا هم يغفرون } لم يقل الحق تعالى : والذين لم يغضبوا لأن الغضب وصف بشري ، لا ينفك عنه مخلوق ، فالمطلوب المجاهدة في دفعه ، وردّ ما ينشأ عنه ، لا زواله من أصله ، فعدم وجوده في البشر أصلاً نقص ، ولذلك قال الشافعي رضي الله عنه : " مَن اسْتُغضِب ولم يغضب فهو حمار " فالشرف هو كظمه بعد ظهوره ، لا زواله بالكلية . وقوله تعالى : { والذين استجابوا لربهم } قال القشيري : المستجيبُ لربه هو الذي لا يبقى له نَفَسٌ إلا على موافقة رضاه ، ولا يبقى لهم منه بقية ، { وأمرهم شورى بينهم } أي : لا يستبدُّ أحدهم برأي ، ويتَّهِمُ رأيَه وأمرَه ، ثم إذا أراد القطعَ توكل على الله . هـ . وحاصل ما اشتملت عليه الآية في رد الغضب : أربع مقامات : الأول : قوم من شأنهم الغفران مطلقاً ، قدروا أو عجزوا ، لا يتحركون في الانتصار قط ، وهو قوله تعالى : { وإِذا ما غَضِبُوا هم يغفرون } . والثاني : قوم قادرون على إنفاذ الغضب ، فتحركوا في الانتصار ، ثم عفوا بعد الاقتدار ، وهذا قوله : { والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون } ، ثم قال : { فمَن عفا وأصلح فأجره على الله } . والثالث : قوم قدروا وانتصروا ، وأخذوا حقهم ، لكن وقفوا عند ما حدّ لهم ، وهو قوله : { ولمَن انتصر بعد ظلمه … } الآية . والرابع : قوم ظُلِموا ، فعفوا ، وزادوا الإحسان إلى مَن أساء إليهم ، والدعاء له بالمغفرة ، حتى يصير مرحوماً بهم ، وهي رتبة الصدّيقية ، أن ينتفع بهم أعداؤهم ، وهو قوله تعالى : { ولمَن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور } ، ولذلك جعل الله هذا القسم من عزم الأمور . وعند الصوفية : ثلاث طبقات : العامة ينتصرون ، والخاصة لا ينتصرون ، لكن يرفعون أمرهم إلى الله في أخذ حقهم من ظالمهم ، وخاصة الخاصة يُحسنون لمَن أساء إليهم ، كما تقدّم . وقال القشيري : { والذين إذا أصابهم البغي } وهو الظلم ، ينتصرون لعِلمهم أن الظلمَ أصابهم من قِبَلِ أنفسهم ، فينتصرون من الظالم ، وهو النفس ، ويكبحون عنانها من الركض في ميدان المخالفة . ثم قال : قوله : { ولمَن انتصر … } الآية ، عَلِمَ اللهُ أنَّ من عباده مَن لا يجد الحرية من أحكام النَّفْس ، ولا يستمكن من محاسن الخُلق ، فرخَّص لهم في المكافأة على سبيل العدل والقسط ، وإن كان الأوْلى بهم الصفح والعفو . هـ . ثم ذكر وبال الظلم وعقوبته ، فقال : { وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ } .