Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 43, Ayat: 1-5)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } يا محمد ، { و } حق { الكتابِ المبين } أي : المبين لِما أنزل عليهم ، لكونه بلغتهم ، وعلى أساليبهم ، أو : الموضّح لطريق الهدى من الضلالة ، أو : المبيّن لكل ما تحتاج إليه الأمة في أبواب الديانة . وجواب القسم : { إِنا جعلناه قرآناً عربياً } بلغتكم { لعلكم تعقلون } أي : جعلنا ذلك الكتاب قرآناً عربياً لكي تفهموه ، وتُحيطوا بما فيه من النظم الرائق ، والمعنى الفائق ، وتقفوا على ما تضمّنه من الشواهد القاطعة بخروجه عن طوق البشر ، وتعرفوا حق النعمة في ذلك ، فتنقطع أعذاركم بالكلية . { وإِنه في أُمّ الكتاب لدْينَا } أي : وإن القرآن العظيم مثبت عند الله في اللوح المحفوظ ، دليله قوله تعالى : { بَلْ هُوَ قُرْءَانٌ مَّجِيدٌ فِى لَوْحٍ مَّحْفُوظِ } [ البروج : 21 ، 22 ] . وسُمِّي أمّ الكتاب لأنه أصل الكتب السماوية ، منه تُنقل وتُنسخ . وقوله تعالى : { لَعَلِيٌّ } خبر { إن } أي : إنه رفيع القدر بين الكتب ، شريف المنزلة لكونه معجزاً من بينها . أو : في أعلى طبقات البلاغة . { حيكمٌ } ذو حكمة بالغة . أو : محكم ، لا ينسخه كتاب . وبعدما بيَّن علو شأنه ، وبيَّن أنه أنزله بلغتهم ليعلموه ، ويؤمنوا به ، ويعملوا بما فيه ، عقَّبَ ذلك بإنكار أن يكون الأمر بخلافه ، فقال : { أفَنَضرِِبُ عنكم الذِكرَ } أي : ننحيه ونُبعده . والضرب : مجاز ، من قولهم : ضرب الغرائب عن الحوض . وفيه إشعار باقتضاء الحكمة توجيه الذكر إليهم ، وملازمته لهم ، كأنه يتهافت عليهم ثم يضربه عنهم . والفاء : للعطف على محذوف أي : أنهملكم فنضرب عنكم الذكر { صَفْحاً } أي : إعراضاً ، مصدر ، من : صفَح عنه : إذا أعرض ، منصوب على أنه مفعول له ، على معنى : أفنعزل عنكم إنزال القرآن ، وإلزام الحجة به إعراضاً عنكم . ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً لما دلّ عليه " نضرب " لأنه في معنى الصفح ، كأنه قيل : أفنفصح صفحاً { أن كنتم قوماً مسرفين } ، أي : لأن كنتم منهمكين في الإسراف ، مصرّين عليه لأن حالكم اقتضى تخيلتكم وشأنكم ، حتى تموتوا على الكفر والضلالة ، فتبقوا في العذاب الخالد ، لكن بسعة رحمتنا لا نفعل ذلك ، بل نهديكم إلى الحق ، بإرسال الرسول الأمين ، وإنزال الكتاب المبين . ومَن قرأ بالكسر فشرط حُذف جوابه لدلالة ما قبله عليه ، وهو من الشرط الذي يصدرُ عن الجازم بصحة الأمر ، كما يقول الأجير : إن كنتُ عملتُ لك فوفّني حقي ، وهو عالم بذلك . وعبّر بـ " أن " إخراجاً للمحقق مخرج المشكوك لاستهجالهم ، كأن الإسراف من حقه ألا يقع . الإشارة : { حم } أي : حببناك ، ومجدناك ، وملكناك ، وحق الكتاب المبين . ثم استأنف فقال : { إنا جعلناه } أي : ما شرفناك به أنت وقومك { قرآناً عربياً } يفهمه مَن يسمعه { لعلكم تعقلون } عن الله ، فتشكروا نعمه . { وإنه في أُمّ الكتاب } أي : وإن الذي شرفناكم به في أُمّ الكتاب . قال الرتجبي : أي : إنه صفتي ، كان في ذاته منزهاً عن النقائص والافتراق - أي : منزهاً عن الحروف والأصوات ، التي من شأنها التغيُّر ، وعن التقديم والتأخير ، وهو افتراق كلماته - إذ هما من صفات الحدث . وأُم الكتاب عبارة عن ذاته القديم ، لأنها أصل جميع الصفات ، { لَدَيْنَا } معناه : ما ذكرنا أنه في أُمّ الكتاب عندنا { لعلِيّ } علا عن أن يدركه أحدٌ بالحقيقة ، ممتنع من انتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين ، { حكيم } محكِم مبين . وقال جعفر : عَلِيّ عن درك العباد وتوهمهم ، حكيم فيما دبّر وأنشأ وقدّر . هـ . فانظره ، فإنَّ هذه من صفات الحق ، والكلام في أوصاف القرآن . وقوله تعالى : { أَفَنَضْرِبُ عنكم الذِكْرَ صفحاً } الآية ، قال القشيري : وفي هذه إشارة لطيفة ، وهو : ألا يُقطع الكلامُ عمّن تمادى في عصيانه ، وأسرف في أكثر شأنه ، فأحرى أن مَنْ لم يُقَصّرْ في إيمانه ، أو تَلَطَّخَ بعصيانه ، ولم يَدْخُل خَلَلٌ في عرفانه ، فإنه لا يَمْنَعَ عنه رؤية لطائف غفرانه . هـ . يعني : أن الحق جلّ جلاله لم يقطع كلامه عمن تمادى في ضلاله ، فكيف يقطع إحسانه عمّن تمسك بإيمانه ، ولو أكثر من عصيانه . وكذلك أهل النسبة التصوفية ، إذا اعوجّ أخوهم ، لا يقطعون عنه كلامهم وإحسانهم ، بل يلاطفونه ، حتى يرجع ، وهذا مذهب الجمهور . ثم سلّى نبيه بمَن قبله ، فقال : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي ٱلأَوَّلِينَ } .