Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 43, Ayat: 26-30)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { وإِذ قال إبراهيمُ } أي : واذكر وقت قوله عليه السلام { ولأبيه وقومه } المُنكّبين على التقليد ، كيف تبرأ مما هم فيه بقوله : { إِنني بَرَاء } أي : بريء { مما تعبدون } ، وتمسك بالبرهان . وذكر قصته ليسلكوا مسلكه في الاستدلال ، أو : ليقلدوه ، إن لم يكن لهم بُد من التقليد فإنه أشرف آبائهم . و " برَاء " : مصدر ، يستوي فيه الواحد والاثنان والجمع ، والمذكر والمؤنث ، كرجل عدل ، وامرأة عدل ، وقوم عدل . و " ما " : إما مصدرية ، أو : موصولة ، أي : بريء من عبادتكم ومن معبودكم { إِلا الذين فَطَرَني } استثناء متصل ، أو : منقطع ، على أن " ما " تعم أُولي العلم وغيرهم ، وأنهم كانوا يعبدون الله تعالى والأصنام ، او : صفة ، على أن " ما " موصوفة ، أي : إنني براء من آلهة تعبدونها غير الذي { فطرني } خلقني { فإِنه سيَهدين } يثبتني على الهداية ، أو : سيهدين إلى ما وراء الذي هداني إليه الآن . والأوجه : أن السين للتأكيد دون التسويف ، وصيغة المضارع للدلالة على الاستمرار . { وجعلها } أي : وجعل إبراهيم عليه السلام كلمة التوحيد التي تكلّم بها ، وهي قوله : { إِنني براء مما تعبدون إلا الذي فطرني } ، { كلمة باقية في عَقِبهِ } أي : في ذريته ، حيث وصَّاهم بها ، كما نطق به قوله تعالى : { وَوَصَّى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ … } [ البقرة : 132 ] ، فلا يزال فيهم مَن يوحّد الله تعالى ، ويدعوهم إلى توحيده . { لعلهم يرجعون } أي : جعلها باقية في ذريته رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم بدعاء الموحّد . { بل متعتُ هؤلاء } ، ضراب عن محذوف ، ينساق إليه الكلام ، كأنه قيل : جعلها كلمة باقية في عقبه رجاء أن يرجع إليها مَن أشرك منهم ، فلم يحصل ما رجاه ، بل متعتُ هؤلاء المعاصرين من أهل مكة . { وآباءهم } بالمد في العمر ، والنعمة ، والمهلة ، فاغترُّوا بالمهلة ، وانهمكوا في الشهوات ، وشُغلوا بها عن كلمة التوحيد ، { حتى جاءَهم الحقُّ } القرآن { ورسولٌ مبينٌ } ظاهر الرسالة ، واضحها بالمعجزات الباهرة ، أو : مبين التوحيد . بالآيات والحجج القاطعة . وفي الآية توبيخ لهم ، فإن التمتع بزيادة النعم يُوجب أن يجعلوه سبباً لزيادة الشكر ، والثبات على التوحيد والإيمان ، فجعلوه سبباً لزيادة أقصى مراتب الكفر والضلال . وحاصل معنى الآية : أنه تعالى جعل كلمة التوحيد باقية في عقب إبراهيم عليه السلام ليدعو الموحّد المشرك ، نسلاً بعد نسل ، فيرجع المشرك عن شركه ، فلم يرجعوا ، بل اغترُّوا بما مُتّعوا به ، فاستمرّوا على الشرك حتى جاءهم الحق ، فكفروا وأصرُّوا ، { ولمَّا جاءهم الحقُّ } أي : القرآن يُنبههم على ما هم عليه من الغفلة ، ويُرشدهم إلى التوحيد ، ازدادوا كفراً وعُتواً ، وضمُّوا إلى كفرهم السابق معاندة الحقوالاستهانة به ، حيث { قالوا هذا سحر وإِنا به كافرون } فسَمّوا القرآنَ سحراً ، وجحدوه ومَن جاء به . والله تعالى أعلم . الإشارة : كان إبراهيم عليه السلام إمام أهل التوحيد ، لقوله تعالى : { إِنِّى جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] ، وجعل الدعوة إليه في عقبه إلى يوم القيامة ، وهو على قسمين : توحيد البرهان ، وتوحيد العيان . وقد جاءت بعده الرسل بالأمرين معاً ، وقام بها خلقاؤهم بعدهم ، فقام بالأول العلماء ، وقام بالثاني خواص الأولياء ، أهل التربية الحقيقية ، ولا ينال من توحيد العيان شيئاً مَن علق قلبه بالشهوات الجسمانية ، والحظوظ الفانية ، كما قال الششتري رضي الله عنه : @ ترَكْنا حُظوظاً من حضيض لُحُوظنا مع المقصد الأقصى إلى المطلب الأسنى @@ وكل مَن تمتع بذلك ، وانهمك فيه حَرِمَ بركة صحبة العارفين إذ يمنعه ذلك من حط رأسه ، ودفع فلسه ، فينخرط في سلك قوله تعالى : { بل متعتُ هؤلاء وآباءهم … } الآية . وكل زمان له رسول ، خليفةً عن الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو إلى الحق ومعرفته . وبالله التوفيق . ثم ذكر تحكمهم على الله ، واستحقارهم لرسوله صلى الله عليه وسلم ، فقال : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ } .