Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 1-9)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { حم } يا محمد { و } حق { الكتاب المبين } الواضح البيِّن ، وجواب القسم : { إِنا أَنزلناه } أي : الكتاب الذي هو القرآن { في ليلة مباركةٍ } ليلة القدر ، أو ليلة النصف من شعبان ، والجمهور على الأول ، لقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ } [ القدر : 1 ] وقوله : { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِى أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ } [ البقرة : 185 ] ، وليلة القدر على المشهور في شهر رمضان ، وسيأتي الجمع بينهما . ثم قيل : أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل نجوماً ، على حسب الوقائع ، في ثلاث وعشرين سنة ، وقيل : معنى نزوله فيها : ابتداء نزوله . والمباركة : الكثيرة الخير لما ينزل فيها من الخير والبركة ، والمنافع الدينية والدنيوية ، ولو لم يوجد فيها إلا إنزال القرآن لكفى به بركة . { إِنا كنا منذِرينَ } استئناف مبين لما يقتضي الإنزال ، كأنه قيل : إنا أنزلناه لأن من شأننا الإنذار والتحذير من العقاب ، { فيها يُفرَقُ كلُّ أمرٍ حكيم } استئناف أيضاً مبين لسر تخصيص هذه الليلة بالإنزال ، أي : إنما أنزلناه في هذه الليلة المباركة ، لأنها فيها يُفرق كل أمر حكيم ، أي : ذي حكمة بالغة ، ومعنى " يُفرق " : يفصل ويكتب كل أمر من أرزاق العباد وآجالهم وجميع أمورهم ، من هذه الليلة إلى ليلة القدر المستقبلة ، وقيل : الضمير في " فيها " يرجع لليلة النصف ، على الخلاف المتقدم . وروى أبو الشيخ ، بسند صحيح ، عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله : { يمحو الله ما يشاء ويثبت } قال : " ليلة النصف من شعبان ، يُدبر أمر السنة ، فيمحو ما يشاء ويُثبت غيره الشقاوة والسعادة ، والموت والحياة " . قال السيوطي : سنده صحيح لا غُبار عليه ولا مطعن فيه . هـ . وروي عن ابن عباس : قال : إن الله يقضي الأقضية كلها ليلة النصف من شعبان ، ويسلمها إلى أربابها ليلة القدر . وفي رواية : ليلة السابع والعشرين من رمضان ، قيل : وبذلك يرتفع الخلاف أن الأمر يبتدأ في ليلة النصف من شعبان ، ويكمل في ليلة السابع والعشرين من رمضان . والله أعلم . وقوله تعالى : { حكيم } الحكيم : ذو الحكمة ، وذلك أن تخصيص الله كل أحد بحالة معينة من الرزق والأجل ، والسعادة والشقاوة ، في هذه الليلة ، يدلّ على حكمة بالغة فأسند إلى الليلة لكونها ظرفاً ، إسناداً مجازياً . وقوله : { أمراً من عندنا } منصوب على الاختصاص ، أي : أعني بهذا الأمر أمراً حاصلاً من عندنا ، على مقتضى حكمتنا ، وهو بيان لفخامته الإضافية ، بعد بيان فخافمته الذاتية ، ويجوز أن يكون حالاً من كل أمر لتخصيصه بالوصف ، { إِنا كنا مرسِلين } بدل من { إنا كنا منذرِين } . و { رحمةً من ربك } مفعول له ، أي : أنزلنا القرآن لأن من عادتنا إرسال الرسل باكتب لأجل إفاضة رحمتنا . ووضع الرب موضع الضمير ، والأصل : رحمة منا للإيذان بأن ذلك من أحكام الربوبية ومقتضياتها ، وإضافته إلى ضميره صلى الله عليه وسلم لتشريفه وفخامته . وقال الطيبي : هذه الجمل كلها واردة على التعليل المتداخل فكأنه لما قيل : { إنا أنزلناه في ليلة مباركة } قيل : فلِمَ أُنزل ؟ فأجيب : لأن من شأننا التحذير والعقاب ، فقيل : لِمَ خص الإنزال في هذه الليلة ؟ فقيل : لأنه من الأمور المُحكَمة ، ومن شأن هذه الليلة أن يُفرق فيها كل أمر حكيم ، فقيل : لِمَ كان من الأمور المُحكَمة ؟ فأجيب : لأن ذا الجلال والإكرام أراد إرسال الرحمة للعالمين ، ومن حق المنزَل عليه أن يكون حكيماً ، لكونه للعالمين نذيراً ، أو { داعياً إلى الله بإذنه … } الآية ، فقيل : لماذا رحمهم الرب بذلك ؟ فأجيب : لأنه وحده سميع عليم ، يعلم جريان أحوال عباده ، ويعلم ما يحتاجون إليه دنيا وأخرى . هـ . وهذا معنى قوله : { إِنه هو السميع } لأقوالهم وحده ، { العليم } بأحوالهم . { ربِّ السماوات والأرض وما بينهما } مَن جرّه بدر من " ربك " ، ومَن رفعه خبر من ضمر ، أي : هو رب العوالم العلوية والسفلية ، وما بينها ، { إِن كنتم موقنين } أي : من أهل الإيقان ، ومعنى الشرط ، أنهم كانوا يُقرون بأن للسموات والأرض ربّاً وخالقاً ، فإن كان إقرارهم عن علم وإيقان فهو الذي أنزل الكتاب وأرسل الرسل رحمة منه ، وإن كانوا مذبذبين فليعلموا ذلك . { لا إِله إِلا هو } مِن قصر إفرادٍ لا قصر قلبٍ ، لأن المشركين كانوا يُثبتون الألوهية لله تعالى ويشركون معه غيره ، فردّ الله عليهم بكونه لا يستحق العبادة غيره ، { يُحيي ويُميت } ثم يبعث للجزاء ، { ربُّكم وربُّ آبائكم الأولين } أي : هو رب الجميع ، ثم ردّ أن يكونوا موقنين بقوله : { بل هم في شك يلعبون } وإقرارهم غير صادر عن علم وإيقان ، بل قول مخلوط بهزؤ ولعب . والله تعالى أعلم . الإشارة : { حم } ، قال الورتجبي : الحاء : الوحي الخاص إلى محمد ، والميم : محمد صلى الله عليه وسلم ، وذلك الوحي الخاص بلا واسطة خبرٌ عن سر في سر ، لا يطلع على ذلك - الذي بين المحب والمحبوب - أحد من خلق الله ، ألا ترى كيف قال سبحانه : { فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَآ أَوْحَى } [ النجم : 10 ] ؟ وذلك إشارة إلى وحي السر في السر ، وجملتها قسم ، أي بمعنى الوحي السري والمحبوب ، والقرآن الظاهر الذي ينبئ عن الأسرار ، { إنا أنزلناه } هـ . قال القشيري : الحاء تشير إلى حقِّه ، والميم إلى محبته ، ومعناه : بحقي ومحبتي لعبادي ، وكتابي العزيز إليهم ، ألا أُعَذِّب أهلَ محبتي بفرقتي . هـ . والليلة المباركة عند القوم ، هي ليلة الوصال والاتصال ، حين يُمْتَحى وجودُهم ، ويتحقق فناؤهم ، وكل وقت يجدون فيه قلوبهم ، ويفقدون وجودهم فهو مبارك ، وهو ليلة القدر عندهم ، فإذا دام اتصالهم ، كانت أوقاتهم كلها ليلة القدر ، وكلها مباركة . قال الورتجبي : قوله تعالى : { في ليلة مباركة } كانت مباركة لتجلِّي الحق فيها بالأقضية ، والرحمة غالبة فيها ، ومن جملتها : إنزال القرآن فيها فإنه افتتاح وصلة لأهل القرية . هـ . قال القشيري : وسمّاها ليلة مباركة لأنها ليلة افتتاح الوصلة ، وأشدُّ الليالي بركةً ، ليلةٌ يكون العبد فيها حاضراً بقلبه ، مشاهداً لربه ، يتنسّم بأنوار الوصلة ، ويجد فيها نسيم القربة ، وأحوال هذه الطائفة في لياليهم مختلفة ، كما قالوا ، وأنشدوا : @ لا أَظْلِمْ الليلَ ولا أَدَّعي أنّ نُجومَ الليلِ ليست تَغُورُ لَيْلِي كما شَاء فإن لم يَزرْ طالَ ، وإن زار فلَيْلي قَصيرُ @@ هـ . أي : لَيْلِي كما شاء المحبوب ، فإن لم يزرني طال ليلِي ، وإن زارني قَصُر . والحاصل : أن أوقات الجمال والبسط كلها قصيرة ، وأوقات الجلال كلها طويلة ، وقوله تعالى : { فيها يُفرق كل أمر حكيم } أي : في ليلة الوصال تفرق وتبرز الحِكَم والمواهب القدسية ، بلا واسطة ، بل أمراً من عندنا ، والغالب أن هذه الحالة لا تكون إلا عند الحيرة والشدة من الفاقة أو غيرها ، وكان بعض العارفين من أشياخنا يستعدُّون فيها لكتب المواهب ، ويسمونها ليلة القدر . وقوله تعالى : { إِنّا كنا مرسلين رحمةً من ربك } هو الرسول صلى الله عليه وسلم قال : " أنا الرحمة المهداة " ، فرحمة مفعول به ، { إِنه هو السميع العليم } قال القشيري : السميع لأنين المشتاقين ، العليم بحنين المحبين . هـ . { لا إِله إلا هو } أي : لا يستحق أن يَتَأله ويُعشق إلا هو ، { يُحيي ويميت } يُحيي قلوب قوم بمعرفته ومحبته ، ويُميت قلوباً بالجهل والبُعد ، يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد . ثم وصف أهل الجهل والبُعد بقوله : { بل هم في شك يلعبون } وأما أهل المعرفة والقُرب فهم في حضرة محبوبهم يتنعّمون ، ومن روح وصاله يتنسّمون . قال القشيري : واللعب يجري على غير ترتيب ، تشبيهاً باللعاب الذي يسيل لا على نظام مخصوص ، ووصف الكافر باللعب لتردُّده وشكِّه وتحيُّره في عقيدته . هـ . ثم هدّدهم بقوله : { فَٱرْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي ٱلسَّمَآءُ } .