Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 44, Ayat: 10-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { فارتقبْ } فنتظر { يوم تأتي السماءُ بدُخان مبين } قال عليّ وابن عباس وابن عمر والحسن رضي الله عنهم : هو دخان يجيء قبل يوم القيامة ، يُصيب المؤمن منه مثل الزكام ، ويُنضج رؤوسَ المنافقين والكافرين ، حتى تكون كأنها مصليَّة حنيذة ، وتكون الأرض كلها كبيت أُوقد فيه نار ، ليس فيه خِصاص ، ويؤيد هذا حديث حذيفة : " أول الآيات الدخان ، ونزول عيسى ، ونار تخرج من عدن ، تسوق الناس إلى الحشر ، تقيل معهم إذا قالوا … " الحديث ، انظر الثعلبي . وأنكر هذا ابن مسعود ، وقال : هذا الدخان قد رأته قريش حين دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم بسبع كسبع يوسف ، فكان الرجل يرى من الجوع دخاناً بينه وبين السماء . ويؤيده ما يأتي بعده . وقوله : { مبين } أي : ظاهر لا يشك أحد أنه دخان ، { يغشى الناسَ } أي : يحيط بهم ، حتى كان الرجلُ يُحدّث الرجلَ ، ويسمع كلامه ، ولا يراه من الدخان ، أي : انتظر يوم شدة ومجاعة فإن الجائع يرى بينه وبين السماء كهيئة الدخان ، إما لضعف بصره ، أو لأن عام القحط يُظلِم الهواء لقلة الأمطار ، أو كثرة الغبار ، { هذا عذابٌ أليم } أي : قائلين هذا عذاب أليم . ولما اشتد بهم القحط ، مشى أبو سفيان ، ونفر معه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وناشده الله تعالى والرحم ، وواعدوه إن دعا لهم ، وكشف عنهم ، أن يؤمنوا ، وذلك قوله تعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب إِنا مؤمنون } أي : سنؤمن إن كُشف عنا العذاب ، قال تعالى : { أنَّى لهم الذكرَى } أي : كيف يذَّكرون ويتَّعظون ويَفُون بما وعدوه من الإيمان عند كشف العذاب ، { وقد جاءهم رسول مبين } أي : والحال أنهم يُشاهدون من دواعي التذكير وموجبات الاتعاظ ، ما هو أعظم منه ، حيث جاءهم رسول عظيم لشأن ، بيِّن البرهان ، يُبين لهم مناهج الحق بإظهار آيات ظاهرة ، ومعجزات قاهرة ، تخرّ لها صُمّ الجبال . { ثم تَولوا عنه } أي : عن ذلك الرسول ، بعدما شاهدوا من العظائم ما يوجب الإبال عليه ، ولم يقنعوا بالتولِّي ، بل اقترفوا ما هو أشنع ، { وقالوا } في حقه عليه السلام : { مُعَلَّمٌ مجنون } أي : قالوا تارة مُعَلَّم يُعلمه غلام أعجمي لبعض ثقيف ، وتارة مجنون ، أو : يقول بعضهم كذا ، وبعضهم كذا ، وكيف يتوقع من قوم هذه صفتهم أن يتأثروا بالعظة والتذكير ؟ ! قال تعالى : { إِنا كاشفوا العذاب قليلاً } أي : زمناف قليلاً ، أو كشفاً قليلاً ، { إِنكم عائدون } إلى الكفر ، الذي أنتم فيه ، أو : إلى العذاب بعد صرف الدخان ، على القول الأول ، { يوم نبطشِ البطشةَ الكبرى } يوم بدر ، أو يوم القيامة ، { إِنا منتقمون } أي : ننتقم منهم في ذلك اليوم . وانتصاب { يوم نبطش } باذكر أو بما دلّ عليه { إنا منتقمون } ، وهو ننتقم ، لا بمنتقمون ، لأن ما بعد " إن " لا يعمل فيما قبله . الإشارة : { فارتقب } أيها العارف { يوم تأتي السماء بدخان مبين } أي : يوم يبرز من سماء الغيوب بدخان الحس ، وظلمة الأسباب تغشى قلوب الناس ، فتحجبهم عن شمس العرفان ، هذا عذاب أليم موجع للقلوب ، حيث حجبها عن حضرة علاّم الغيوب . وأما العارف فشمسه ضاحية ، ونهاره مشرق على الدوام ، كما قال شاعرهم : @ لَيلِي بوجهكَ مشْرقٌ وظلامُهُ في الناس سَارِ الناسُ في سَدَفِ الظَّلامِ ونحنُ في ضوءِ النَّهارِ @@ وقال آخر : @ طَلَعتْ شَمْسُ مَن أُحبُّ بِليلٍ فَاسْتَنارَتْ فما تلاها غُروبُ إِن شمسَ النَّهارِ تَغْربُ بِليلٍ وشَمسُ القُلوبِ لَيْسَت تغِيبُ @@ قال القَشيري : قيامة هؤلاء - أي الصوفية - مُعَجَّلة لهم ، يوم تأتي السماء فيه بدخان ، مبين ، وهو باب غيبة الأخبار ، وانسداد باب ما كان مفتوحاً من الأنس بالأحباب . قلت : وأحسن من عبارته أن تقول : وهو باب غيبة الأنوار ، وانسداد نبع الأسرار . ثم قال : وفي معناه قالوا : @ فلاَ الشمس شَمْسٌ تستنيرُ ولا الضحى بطَلْقٍ ولا ماءُ الحياة بباردِ @@ هـ . وقوله تعالى : { ربنا اكشف عنا العذاب } قال القشيري : وقد يستزيد هؤلاء العذاب على العكس من أحوال الخلق ، وفي ذلك أنشدوا : @ وكلُّ مآربي قدْ نِلْتُ مِنها سِوى مُلكِ وَدِّ قَلْبي بالعذاب @@ فهم يسألون البلاء بدل ما يستكشفه الخلق ، وأنشدوا : @ أَنْتَ البلاَءُ فكيف أرجو كَشْفه إنَّ البلاء إذا فقدتُ بلائي @@ هـ . قلت : وأصرح منه قول الشاعر : @ يا مَنْ عَذَابي عذبٌ في مَحَبَّته لاَ أشْتكِي منك لا صَدّاً ولا مَلَلا @@ وقول الجيلاني رضي الله عنه : @ تَلَذُّ ليَ الآلامُ إِذ كنتَ مُسقِمي وَإن تَخْتبِرني فهي عِنْدي صنَائِعُ تَحكَّمْ بما تَهْواه فيَّ فإنني فَقِيرٌ لِسلطانِ المحبة طائِعُ @@ قوله تعالى : { أنَّى لهم الذكرى } أي : كيف يتّعظ مَن تنكَّب عن صحبة الرجال ، وملأ قلبه بالخواطر والأشغال ؟ وقد جاءهم مَن يدعوهم إلى الكبير المتعال ، فأنكروه ، وقالوا : مُعَلَّمٌ مجنون ، إنا كاشفوا العذاب عن قلوبهم من الشكوك والخواطر قليلاً ، حين يتوجهون إلينا ، ويفزعون إلى بابنا ، أو يسمعون مِن بعض أوليائنا ، ثم تكثر عيهم الخواطر ، حين تنقشع عنهم سحابة أمطار الواردات من قلوب أوليائنا ، إنكم عائدون إلى ما كنتم عليه ، { يوم نبطش البطشة الكبرى } هي خطفة الموت ، فلا ينفع يفها ندم ولا رجوع ، بل يورثهم حزناً طويلاً ، فلا يجدون في ظلال انتقامنا مقيلاً ، فننتقم ممن أعرض بسريرته عن دوام رؤيتنا . ثم ذكر وبال مَن سلك مسلكهم ، فقال : { وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ } .