Back to subchapter overview

Subchapter (Sura: 45, Ayat: 23-23)

Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd

The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com

يقول الحق جلّ جلاله : { أفرأيتَ مَن اتخذ إِلهَهُ هواه } أي : أباح لنفسه كل ما تهواه ، سواء كان مباحاً أو غير مباح ، فكأنه يعبده كما يعبد الرجل إلهه ، وإليه أشار في المباحث بقوله : @ ومَن أباح النفس ما تهواه فإنما معبوده هواه @@ فالآية وإن نزلت في هوى الكفر فهي متناولة لكل هوى النفس الأمَّارة ، قال ابن جبير : نزلت في قريش والعرب ، كانوا يعبدون الحجارة والذهب والفضة ، فإذا وجدوا شيئاً أحسن أَلْقَوه وعبدوا غيره . هـ . ومتابعة الهوى كلها مذمومة ، فإن كان ما هوته مُحرّماً أفضى بصاحبه إلى العقاب ، وإن كان مباحاً بقي صاحبه في غم الحجاب وسوء الحساب ، وأسْرِ نفسه وكدِّ طبعه . وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " ما عُبد تحت السماء أبغض إلى الله تعالى من هوى " ، وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثٌ مهلكات شحٌّ مطاع ، وهوىً متبع ، وإعجابُ المرء بنفسه " وقال أيضاً : " الكيِّسُ مَن دان نفسه ، وعَمِلَ لما بعد الموت ، والعاجز مَن أَتبع نفسَه هواها ، وتمنَّى على الله " ، وسيأتي في الإشارة تمامه . ثم قال تعالى : { وأضلَّه اللّهُ على علم } أي : خذله على علم منه ، باختياره الضلالة ، أي : عالماً بضلاله ، وتبديله لفطرة الله التي فطر الناس عليها . وقيل : نزلت في أمية بن أبي الصلت ، وكان عنده علم بالكتب المتقدمة ، فكان ينتظر بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ، فلما ظهر ، قال : ما كنتُ لأومن لرسول ليس من ثقيف ، وأشعاره محشوة بالتوحيد ، ولكن سبق له الشقاء ، فلم يؤمن ، وختم على سمعه فلا يقبل وعظاً وقلبه ، فلا يعتقد حقاً أي : لا يتأثر بالمواعظ ، ولا يتكفّر في الآيات والنُذر . { وجَعَلَ على بصره غشاوةً } أي : ظلمة مانعة نم الاعتبار والاستبصار ، { فمَن يهديه من بعدِ الله } من بعد إضلال الله إياه ؟ { أفلا تَذَكَّرون } أفلا تتعظون ، فتُسلمون الأمور إلى مولاها ، يُضل مَن يشاء ويهدي مَن يشاء . الإشارة : حقيقة الهوى كل ما تعشقه النفس ، وتميل إليه من الحظوظ العاجلة ، ويجري ذلك في المآكل ، والمشارب ، والملابس ، والمناكح ، والجاه ، ورفع المنزلة ، فليجاهد العبد نفسه في ترك ذلك كله ، حتى لا تحب إلا ما هو طاعة يقرب إلى الله ، كما قال صلى الله عليه وسلم : " لا يؤمنُ أحدكُم حتى يكون هواه تابعاً لما جئتُ به " فإن كان في طريق الإرادة والتربية ترك كل ما تميل إليه نفسه وتسكن إليه ، ولو كان طاعة ، كما قال البوصيري رضي الله عنه : @ ورَاعِها وهي في الأعمالِ سائمة وإن هي استحْلت المرعى فلا تُسِمِ @@ فإنَّ حلاوة الطاعة سموم قاتلة ، يمنع الوقوف معها من الترقي إلى حلاوة الشهود ولذة المعرفة ، وكذلك الركون إلى الكرامات ، والوقوف مع المقامات ، كلها أهوية تمنع مما هو أعلى منها من مقام العيان ، فلا يزل المريد يُجاهد نفسه ، ويرحلها عن هذه الحظوظ ، حتى تتمحّض محبتها في الحق تعالى ، فلا يشتهي إلا شهود ذاته الأقدس ، أو ما يقضيه عليه ، فإذا ظهر بهذا المقام لم تبقَ له مجاهدة ولا رياضة ، وكان ملكاً حرّاً ، فيقال له حينئذ : @ لك الدهر طوع ، والأنام عبيد فعش ، كل يوم من أيامك عيد @@ وطريق السير في هذا أن يُساس نفسه شيئاً فشيئاً ، يمنعها من المكروهات ، ثم من المباحات شيئاً فشيئاً ، حتى تستأنس ، يترك شهوة ثم أخرى ، وهكذا ، وأما لو منعها الكل دفعة واحدة فربما تمل وتسقط ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " لا يكن أحدكم كالمُنبت ، لا أرضاً قَطَع ، ولا ظهراً أبقى " وإلى هذا أشار في المباحث ، حيث قال : @ واحتلْ على النفس فرب حيلهْ أنفع في النصرة من قبيلهْ @@ وأعظم الحظوظ حُب الجاه والتقدُّم ، فلا يسامحها المريد في شيء من ذلك قط ، ولينزل بها إلى الخمول والسفليات ، وأما شهوة البطن والفرج ، فما تشوّفت إليه النفس من ذلك فليمنعها منها كليّاً ، وما أتاها من غير حرص ولا تشوُّف فليأخذ منه قدر الحاجة ، مع الشكر عيله ، هكذا يسير حتى يتحقق وصوله ، ويتمكن من معرفة الحق ، وحينئذ فلا كلام معه ، كما تقدّم ، ولا بد من صُحبة شيخ عارف كامل ، يلقيه زمام نفسه ، فيحمله بهمته ، وإلا فلا طاقة على مجاهدتها أصلاً ، وجَرَّب ففي التجريب علم الحقائق . قال القشيري : مَن لم يَسْلك سبيلَ الاتباع ، ولم يستوفِ أحكام الرياضة ، ولم ينسلخ عن هواه بالكلية ، ولم يؤدبَه إمامٌ مُقتدًى به ، فهو ينحرفُ في كل وَهْدةٍ ، ويهيمُ في كل ضلالة ، ويضلُّ في كل فجٍّ ، خسرانه أكثر من ربحه ، ونقصانه أوفر من رجحانه ، أولئك في ضلال بعيد ، زِمامُهم بيد هواهم ، أولئك أهل المكر ، استْتُدرِجُوا وما يشعرون . هـ . وفي الحِكَم : " لا يخاف أن تلتبس الطرق عليك ، وإنما يخاف من غلبة الهوى عليك " . فمَن غَلَبَه الهوى غَلَبَه الوجود بأسره ، وتصرّف فيه ، أحبّ أم كَرِهَ ، ومَن غلب هواه غلب الوجودَ بأسره ، وتصرّف فيه بهمته كيف شاء . حكي عن أبي عمران الواسطي ، قال : انكسرت بنا السفينة ، فبقيت أنا وامرأتي على ألواح ، وقد وَلَدَتْ في تلك الليلة صبية ، فصاحت بي ، وقالت : يقتلني العطش ، فقتل : هو ذا يرى حالنا ، فرفعتُ رأسي ، فإذا رجل جالس في يده سلسلة من ذهب ، فيها كوز من ياقوت أحمر ، فقال : هاك اشربا ، فأخذتُ الكوز ، فشربنا ، فإذا هو أطيب من المسك ، وأبرد من الثلج ، وأحلى من العسل ، فقلتُ : مَن أنتَ ؟ فقال : أنا عبد لمولاك ، فقلت : بِمَ وصلتَ إلى هذا ؟ فقال : تركت هواي لمرضاته ، فأجلسني في الهواء ، ثم غاب ولم أره . هـ . وقال سهل رضي الله عنه : هواك داؤك ، فإن خالفته فدواؤك ، وقال وهب : إذا عرض لك أمران وشككت في خيرهما ، فانظر أبعدهما من هواك فأته . هـ . ومثله في الحِكَم : " إذا التبس عليك أمران ، فانظر أثقلهما على النفس ، فاتبعه ، فإنه لا يَثْقُل عليها إلا ما كان حقاً " . فالعز كله في مخالفة الهوى والذل والهوان كله في متابعة الهوى ، فنُونُ الهوان سُرقت من الهوى ، كما قال الشاعر : @ نونُ الهوانِ من الهوَى مسروقةٌ وأسيرُ كل هوى أسير هوان @@ وقال آخر : @ إن الهوَى لهو الهوانُ بعينه فإذا هوَيْتَ فقد لَقِيتَ هَوانَا وإذا هَوِيتَ فقد تعبَّدكَ الهوَى فاخضعْ لحِبّك كائناً مَنْ كانا @@ وقال ابن المبارك : @ ومن البلاءِ للبلاءِ علامةٌ ألاّ يُرى لك عن هَوَاكَ نُزُوعُ العبدُ أعنَى النفسَ في شهواتها والحرُّ يَشبَعُ تارةً ويجوعُ @@ ولابن دُريد : @ إذا طالبتك النفسُ يوماً بشهوةٍ وكان إليها للخلافِ طريقُ فدعْها وخالِفْ ما هويتَ فإنما هَواك عدوٌ والخلاف صديقُ @@ وقال أبو عُبيد الطوسي : @ والنفسً إن أعطيتها مُنَاها فاغِرَةٌ نحوَ هواها فَاهَا @@ هذا ، وللآية إشارة أخرى ، رُويت عن بعض مشايخنا ، قال : يمكن أن تكون الآية مدحاً ، يقول تعالى : { أفرأيت من اتخذ إلهه } وهو الله تعالى ، ومحبوبَه وهواه ، لا يهوى معه غيره ، وأضله الله ، في محبته ، على علم منه بالله ، وختم على سمعه وقلبه وبمحبته ، فلا يسمع إلا منه ، ولا يُحب غيره ، وجعل على بصره غشاوة ، فلا يرى سواه ، فمَن يهديه هذه الهداية العظمى من بعد الله ، وهذا يُسلّم في طريق الإشارة ، لأنها خارجة عن سياق العبارة ، وللقرآن أسرار باطنة ، يعرفها أهل الباطن فقط ، فسلِّم تَسْلَمْ . ثم ذكر مقالة أهل الأهواء والضلال ، فقال : { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا } .