Back to subchapter overview
Subchapter (Sura: 46, Ayat: 15-16)
Tafsir: al-Baḥr al-madīd fī tafsīr al-Qurʾān al-maǧīd
The Arabic texts on this page originate from AlTafsir.com
يقول الحق جلّ جلاله : { ووصينا الإِنسانَ } بأن يُحسن { بوالديه حُسناً } وقرأ أهل الكوفة { إحساناً } وهما مصدران ، وقرئ : " حَسَناً " بفتح الحاء والسين ، أي : يفعل بهما فعلاً حَسَناً ، أو : وصينا إيصاءً حَسَاناً ، { حملته أُمه كُرْهاً ووضعته كُرهاً } أي : حملته بكُرْهٍ ومشقة ، ووضعته كذلك ، وذكره للحث على الإحسان والبرور بها ، فإن الإحسان إليها أوجب ، وأحق من الأب ، ونصبهما على الحال ، أي : حملته كارهة ، أو : ذات كُره ، وفيه لغتان الفتح والضم ، وقيل : بالفتح مصدر ، وبالضم اسمه . { وحَمْلُه وفِصَالُه } أي : ومدةُ حمله وفصاله ، وهو الفطام . وقرأ يعقوبُ : " وفصله " وهما لغتان كالفَطْم والفطام ، { ثلاثون شهراً } لأن في هذه المدة عُظَّم مشقة التربية ، وفيه دليل على أن أقل مدة ستةُ أشهر لأنه إذ حُط منه لفطام حولان ، لقوله تعالى : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] يبقى للحمل ستة ، قيل : ولعل تعيين أقل مدة الحمل ، وأكثر مدة الرضاع لانضباطهما ، وارتباطِ النسب والرضاع بهما . { حتى إِذا بلغ أشُدَّه } أي : اكتهل ، واستحكم عقله وقوته ، وانتهت قامته وشبابه ، وهي ما بين ثماني عشرة سنة إلى أربعين ، وقال زيد بن أسلم : الحلم ، وقال قتادة : ستة وثلاثون سنة ، وهو الراجح ، وقال الحسن : قيام الحجة عليه . { وبلغ أربعين سنة } وهو نهاية الأشدّ ، وتمام العقل ، وكمال الاستواء . قيل : لم يُبعث نبيّ إلا بعد الأربعين ، قال ابن عطية : وإنما ذكر تعالى الأربعين ، لأنها حدّ الإنسان في فلاحه ونجاته ، وفي الحديث " إن الشيطان يمدّ يده على وجه مَن زاد على الأربعين ولم يتب ، فيقول : بأبي وَجْهٌ لايُفلح " هـ . ومن حديث أنس قال صلى الله عليه وسلم : " مَن بلغ أربعين سنة أمّنه الله من البلايا لثالث : الجنون والجذام والبرص ، فإذا بلغ الخمسين خفّف الله عنه الحساب ، فإذا بلغ ستين سنة رزقه الله الإنابة كما يُحب ، فإذا بلغ سبعين سنة غفر الله ما تقدّم من ذنبه وما تأخر ، وشفع في أهل بيته ، وناداه منادٍ من السماء : هذا أسير الله في أرضه " وهذا في العبد المقبل على الله . والله تعالى أعلم . وقُرئ : " حتى إذا استوى وبلغ أشُدَّه " . { قال ربِّ أوزعني } أي : ألهمني { أن أشكر نعمتك التي أنعمتَ عليَّ } من الهداية والتوحيد ، والاستقامة على الدين ، { وعلى والديَّ } كذلك ، وجمع بين شكر النعمة عليه وعلى والديه لأن النعمة عليهما نعمةٌ عليه ، { وأنْ أعمل صالحاً ترضاه } التنكير للتفخيم والتكثير ، قيل : هو الصلوات الخمس ، والعموم أحسن ، { وأَصْلِحْ لي في ذُريتي } أي : واجعل الصلاة سارياً في ذريتي راسخاً فيهم ، أو : اجعل ذريتي مَوقعاً للصلاح دائماً فيهم ، { إِني تُبتُ إِليك } من كل ذنب ، { وإِني من المسلمين } الذين أخلصوا لك أنفسهم ، وانقادوا إليك بكليتهم . قال عليّ رضي الله عنه : نزلت في أبي بكر رضي الله عنه ، ولم تجتمع لأحد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين مَن أسلم أبواه غيره ، وأوصاه الله بهما . هـ . فاجتمع لأبي بكر إسلام أبي قحافة وأمه " أم الخير " وأولاده : عبد الرحمن ، وابنه عتيق ، فاستجاب الله دعاءه في نفسه وفي ذريته ، فإنه آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو ابن ثمان وثلاثين سنة ، ودعا لهم وهو ابن أربعين سنة . قال ابن عباس : أعتق أبو بكر تسعةً من المؤمنين ، منهم : بلال ، وعامر بن فهيرة ، ولم يُرد شيئاً من الخير إلا أعانه الله عليه . هـ . قال ابن عطية : معنى الآية : هكذا ينبغي للإنسان أن يكون ، فهي وصية الله تعالى للإنسان في كل الشرائع ، وقول مَن قال : إنها في أبي بكر وأبويه ضعيف ، لأن هذه نزلت في مكة بلا خلاف ، وأبو قُحافة أسلم يوم الفتح . هـ . قلت : كثيراً ما يقع في التنزيل تنزيل المستقبل منزلة الماضي ، فيُخبر عنه كأنه واقع ، ومنه : { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بَنِى إِسْرَآءِيلَ } [ الأحقاف : 10 ] و { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لاَ يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [ فصلت : 6 ، 7 ] وهذه الآية في إسلام إبي قحافة . والله تعالى أعلم . { أولئك الذين يتقبل عنهم أحسن ما عملوا } من الطاعات ، فإن المباح لا يُثاب عليه إلا بنية صالحة ، فإن يَنقلِب حينئذ طاعة ، وضمّن " يتقبل " معنى يتجاوز ، فعدّاه بعَن إذ لا عمَلَ يستوجبُ القبول ، لولا عفوُ الله وتجاوزه عن عامله ، إذ لا يخلو عمل من خلل أو نقص ، فإذا تجاوز الحق عن عبده قَبِلَه منه على نقصه ، فلولا حلمه تعالى ورأفته ما كان عملٌ أهلاً للقبول . { ويتجاوز عن سيائتهم } فيغفر لهم ، { في } جملة { أصحاب الجنة } كقولك : أكرمني الأمير في نار من أصحابه ، أي : أكرمني في جملة مَن أكرمهم ، ونظمني في سِلكِهمْ ومحله : نصب على الحال ، أي : كائنين في أصحاب الجنة ، ومعدودين فيهم ، { وَعْدَ الصِّدق } أي : وعدهم وعداً صدقاً ، فهو مصدر مؤكد ، لأن قوله : { يتقبل ويتجاوز } وعد من الله تعالى لهم بالتقبُّل والتجاوز ، { الذي كانوا يُوعدون } في الدنيا على ألسنة الرسل عليهم السلام . الإشارة : لمَّا كانت تربية الأبوين مظهراً لنعمة الإمداد بعد ظهور نعمة الإيجاد وصّى الله تعالى بالإحسان إليهما ، وفي الحقيقة : ما ثمَّ إلا تربيةُ الحق ، ظهرت في تجلِّي الوالدين ، قذف الرأفة في قلوبهما ، حتى قاما بتربية الولد ، فالإحسان إليها إحسان إلى الله تعالى في الحقيقة . وقال الورتجبي : وصى الإنسانَ بالإحسان إلى أبويه ، لأنهما أسباب وجوده ، ومصادر أفعال الحق بَدَا منهما بدائعُ قدرته ، وأنوارُ ربوبيته ، فحُرمتهما حرمة الأصل ، ومَن صبرَ في طاعتهما رزقه الله حُسنَ المعاشرة على بساط حُرمته وقُربته . قال بعضهم : أوصى اللّهُ العوام ببر الوالدين لِما لهما عليه من نعمة التربية والحِفظ ، فمَن حفظ وصية الله في الأبوين ، وفّقه بركةُ ذلك ، لحِفظِ حرمات الله ، وكذلك رعاية الأوامر والمحافظةُ عليها تُوصل بركتُها بصاحبها إلى محل الرضا والأنس . هـ . قال القشيري : وشر خصال الولد : التبرُّم بطول حياتهما ، والتأذي بما يجب من حقهما ، وعن قريب يموت الأصل ، وقد يبقى النسل ، ولا بد ان يتبعَ الأصل . هـ . أي : فيعق إن عقّ أصله ، ويبر إن بر ، وفي الحديث : " برُّوا آباءَكُمء تبركمْ أبناؤكم " ثم قال : ولقد قالوا في هذا المعنى وأنشدوا : @ رُوَيْدَكَ إنَّ الدَّهْرَ فيه كفاية لِتَفْرِيق ذات البَيْنِ فارتقِبِ الدَّهرا @@ هـ . قلت : وقد تقدم أن حُرمة الشيخ أوكد من حرمة الوالدين ، فيُقدم أمره على أمرهما ، كما تقدّم عن الجنيد في سورة النساء . والله تعالى أعلم . ثم ذكر وبال عقوقهما ، فقال : { وَٱلَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } .